الزمن العبثي.. والعام الجديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

مما لا شك فيه أن الاحتفالات بقدوم العام الجديد صارت طقساً اجتماعياً، ودافعاً قوياً للتلاقي أو الابتعاد من أو مع الأهل والأحبة والأعزاء..

وتعد من المناسبات التي تدفع الكثيرين للرحيل في اتجاه الأوطان، وخصوصاً في المجتمعات الغربية.. ولقد شاهدنا الآلاف الذين حال الجليد المتراكم بينهم وبين ذويهم، فقضوا الليلة في ردهات المطارات، في وقت أصبح البحث عن مواطن للدفء مطلباً ضرورياً ومستحيلاً في الوقت ذاته في الكثير من الدول.

ولا توجد إطلاقاً مناسبة تستأثر باهتمام الناس، كل الناس المقيمين على سطح الكرة الأرضية، مثل الاحتفال بقدوم رأس السنة الميلادية. فقد أصبح هذا الاحتفال تقليداً عالمياً، تتكثف فيه رغبات الناس، وتتفاوت أحاسيسهم، وهو من المناسبات التي تستدعي الحنين الجارف لما مضى، والخوف المسربل بالأمل مما هو قادم. فالعام الجديد: «يولد على فراش العام المرتحل إلى غياهب العدم»!

في تقديري أن الناس عادة يمنحون الأيام معانيها؛ ويلبسونها الأزياء البراقة التي تعبر عن إحساسهم الذاتي بها بسبب تأثيرها الشديد في النفس البشرية بكل تجلياتها.

لقد أصبح العالم بأكمله يعيش في الزمن المتسارع «الزمن العبثي» الذي لا يستأذن أحداً، ولا يأبه بطلب كل البشر أن يتوقف عن السير، دقيقة تركض خلف الثانية، والساعة في صراعها المحموم مع اليوم. وتتواصل جدلية الأسبوع مع الشهر والناس، كل الناس، لا يملكون سوى الخوف من الزمن الذي يفترس الأعمار.

وفي ذلك ذكر إخوان الصفا في رسائلهم أن الزمن معلم ولكنه يقتل تلاميذه! فهو يعزي نفوسنا بعالم تحفه المباغتة التي تستدرجنا إلى حيث لا علم لنا. فالاحتفال برأس السنة، هو في واقع الأمر احتفال بالزمن الذي يستهلك أعمارنا يوماً بعد يوم.

وتكمن قمة الجدلية عندما تغدو المسافة بيننا وبين أشياء عدة جد بعيدة، في وقت يتأكد لنا أن اجتياز تلك المسافة بعيد المنال. وها هي مدن العالم كما شاهد الجميع في تلك المناسبة، نامت بعد طول ليلة، ضاع فيها القمر في زخم الألعاب النارية التي غطت سماوات العاصمة المتألقة أبوظبي ودبي «معشوقة الشعوب» ومصر أم الدنيا، ولندن، وباريس، وجوهانسبرغ، وأبيدجان وسيدني..

وغيرها من مدن وبلدان العالم، إذ بدا العالم مسكوناً بليلة ضاجة بالأهازيج والفرح المؤسف أو الحزن الجميل عندما تعانقت عقارب الساعة، فقد الجميع توازنهم وضاعت بوصلة الوقت، وتماهى الزمان بسبب حيرة الناس الذين شق عليهم وداع عام ارتحل أو لقاء عام مقبل، وبأي مشاعر..! مشاعر الحزن على الرحيل أم الغبطة بالمجهول الجديد؛ مجهول الهوية؟

رب قائل إن مرد الحيرة والتوجس الذي انتاب معظم الناس، هو الشعور المزدوج بين التطلع للمستقبل بكل ما يخفيه من مفاجآت والحنين رغم كل شيء إلى 365 يوماً، لا بد أنه كان فيها من الأفراح والمواجع ما يبقى أبداً محفوراً في تلافيف الذاكرة، لأن الناس، جميع الناس، يتساوون أمام المصير الذي يخبئه المستقبل، إلا ما مضى.

عشناه لحظة بلحظة. ويبقى له جلاله. ولعل إشعال الألعاب النارية مجرد محاولة لاستعادة أسماء وأشياء ومواقف وذكريات، لتضيء وتلمع في سماء المجهول، مع أن قدر الناس مربوط بمصائرهم، والحياة بقدر ما تأخذ تعطي أيضاً، ولكن بقدر معلوم؟

لقد عاش من بقي على قيد الحياة 365 يوماً بالتمام والكمال، وحتى اللحظة الفاصلة حياة يغلب عليها طابع الروتين والاعتيادية، إلا أن حدثاً واحداً عمره أسبوع أو ربما يوم واحد، يمكن أن يصبح منعطفاً في حياتنا رغم مروره السريع. لكنه يحدث هزة في دواخلنا. لا ولم تكن في الحسبان. ذلك أن كثيراً من المواقف والأحداث العارضة، تكتسب أهمية خاصة في حياة كل منا، لا لشيء إلا لأنها قد تغير مجرى حياتنا ألماً، أو فرحاً، أو أي شيء من هذا القبيل.

أعود لأقول: إن الزمن يغيرنا، لأنه يغير حياتنا، وهو إذ يتسارع ليمضي نحو الأبعد يتعذر بل يستحيل علينا إمساكه.. وإذ يفر منا يجرجر معه من أول العام حتى نهايته، سيلاً من المواقف والأحداث والذكريات واللحظات الهاربة..! والزمن المتسارع بهذا المفهوم الوجودي يمتلئ بلحظات الرحيل الخاطف، والسفر المباغت إلى أمد المجهول.

أكتب ونحن نعيش ونتعايش في عالم الألفية الجديدة والتحديات الكبرى الماثلة أمامنا، ممثلة في الممكن والمستحيل.

لقد كانت ليلة آخر السنة لمن عاشوها واحتفلوا بها: لحظة تحرر مقصودة، للابتعاد عن متاعب الحياة اليومية. لحظات ألقى الناس بأنفسهم طوعاً في بحر الزمن المتسارع، في محاولة للبحث عن الأمواج المفقودة والوقت الضائع. وها نحن حيال عام جديد، نأمل أن يكون جديداً في كل شيء، وكل عام جديد وأنتم بخير.

* كاتبة إماراتية

Email