الواقعية والإنسانية في 2023

ت + ت - الحجم الطبيعي

جرت العادة أن تشهد نهايات الأعوام وبدايات الأعوام الجديدة جردات لا حصر لها.

جردة عن الأحداث الأهم أو الأخطر، أو أفضل الأفلام وأسوأها، أو دول انهارت وأخرى بزغ نجمها، أو تحالفات انتهت صلاحيتها وأخرى تم تدشينها، أفدح الكوارث وأبشع المصائب، أو شخصية العام سلباً أو إيجاباً.

وجرت العادة أن تنقسم الجردات إلى نوعين: الأول عالمي، حيث أحداث وحوادث أثرت على دول الأرض، والثاني محلي، حيث اهتمامات كل دولة على حدة. هذا العام، تطغى على أفكار الجردات وتوجهاتها صبغة من العولمة ولكن بمذاق مختلف عن ذلك الذي كنا مبهورين به وقت قال المنظر الكندي مارشال ماكولهان منتصف القرن الماضي إن العالم سيصير قرية صغيرة، أو ما يسمى بـ«القرية الكوكبية».

جردات هذا العام - العالمي منها والمحلي - تتسم بصفة القرية الكوكبية من حيث تطابق مخاوف ومشكلات وضغوط المواطنين، وإن بدرجات متفاوتة، وكذلك الحراك وإعادة الهيكلة والصياغة الدائرة رحاها في دوائر صناع السياسة واتخاذ القرار.

قرار أو توجه أو ميل العالم في 2022 ليكون متعدد الأقطاب باتت ملامحه واضحة. أمريكا ذات سطوة جبارة، وروسيا عتية رغم حروبها هنا وهناك، والصين قوية، والهند لا يستهان بها، واليابان قادمة بقوة، وألمانيا وفرنسا وبريطانيا قوى لا يستهان بها، والقائمة تزخر بما فيها من دول تتحكم في مجريات العالم بدرجات متفاوتة لكن مؤثرة.

لكن مؤشرات 2022 تقول إن الكوكب يسير في اتجاه تعدد الأقطاب. وسواء قالها المستشار الألماني أولاف شولتس بشكل واضح وصريح، حيث فكرة عالم ثنائي القطب يدور فيه كل شيء حول أمريكا والصين يتجاهل الواقع العالمي، أو لم يقلها، فإن أحداث العام وحوادثه تؤكدها.

وعالمنا العربي في القلب من إعادة صياغة قواعد «القطبية». لم تعد الدول العربية، لا سيما ذات الثقل في التأثير السياسي والاقتصادي والاستراتيجي، مضطرة لاتباع هذا القطب أوذاك في عالم أحادي أو ثنائي القطب.

نظرة سريعة إلى ملف السياسة الخارجية في العديد من الدول العربية، وعلى رأسها مصر والإمارات والسعودية، تشير إلى أن فكرة الهيمنة الغربية على العلاقات الخارجية العربية لم تعد سارية. وعدم سريانها لا يعني العداء، أو وهن العلاقات بقدر ما يعني توزيعاً أكثر حنكة ونضجاً للعلاقات، وعيناً أوسع رؤية للمصالح المرتكزة على مبدأ المعاملة الندية واستقلالية القرار.

وبينما نقول وداعاً لعالم أحادي أو ثنائي القطب وداعاً (لحين إشعار آخر)، نقول كذلك مرحباً بعالم باتت حربه وقوته وقدرته لا ترتكز على عتاد ورجال فقط، بل على ذكاء اصطناعي يلوح بأن يكون القطب الأوحد القادم، ومن يمتلك مفاتيحه أو يهيمن على تقنياته سيكون الأقوى والأقدر على توجيه دفة العالم بمن فيه.

أخبرتنا 2022 أن الذكاء الاصطناعي لم يعد رقمنة للوثائق وإحلال البشر بالماكينات والاعتماد على التطبيقات لتدشين الأعمال وتقديم الخدمات وتوفير الحلول، كما أكدت لنا أن منصات الـ«سوشيال ميديا» لم تعد فقط وسائل للتواصل والاتصال وتبادل المعلومات والآراء بين سكان المعمورة، المسألة أكبر وأعقد من ذلك بكثير.

تهمس 2022 في آذاننا أن الذكاء الاصطناعي يهيمن، وأن البشرية تلهث في محاولات للحاق به. والدول التي أيقنت ذلك مبكراً - وعلى رأسها الإمارات - حمت نفسها من صدمة هذا التطور الرهيب بل واستعدت له وربما سبقته.

في عالم متعدد الأقطاب القوة ليست دبابات وصواريخ وألغام، لكنها أيضاً ذكاء اصطناعي لا يعلم إلا الله مآله ونواياه. صار هناك أطلس للذكاء الاصطناعي، لكنه يظل أطلس في مراحل فك الطلامس الأولية.

عام 2023 يعدنا بقدر أكبر من الهيمنة والقوة والبأس للذكاء الاصطناعي، ويخبرنا في العالم العربي أن تجاهل ذلك أو الاستهانة به لم تعد رفاهية ممكنة. وحتى لو كانت نظم القياس ما زالت تصنف الدول وتحسب قوتها وضعفها بحسب الموارد الاقتصادية وإمكاناتها وإنفاقها العسكري والناتج المحلي، فإن قوة الذكاء الاصطناعي ستكون أحد أهم سبل القياس، إن لم يكن أهمها.

أهم ما نجم عن أحداث وحوادث عام 2022 هو هذا القدر المبهر من المكاشفة وإزالة أو زوال الأقنعة. من يدعم من ولماذا؟ من يناصب من العداء وكيف؟

ماذا يهمين على قمة أولويات البشر ومن يحتكم في هذه الأولويات وكيف يتعامل معها؟ وقائمة طويلة من الأسئلة الحيوية التي أجابت عن الكثير منها 2022. في السياسة، هوامش العشم والأخوة والإنسانية ضيقة إلا فيما ندر.

وفي الاقتصاد، معايير الحقوق والعدالة والمساواة غائبة باستثناءات. والدول القادرة على الاحتفاظ بهوامش سياسية معقولة ومعايير اقتصادية جيدة ستحقق المعادلة الصعبة بين قسوة السياسة وشراسة الاقتصاد من جهة وإنسانية الأولويات وفرضية التعاطف من جهة أخرى.

عام سعيد وواقعي مع هامش من الإنسانية والتعاطف للجميع.

*كاتبة صحافية مصرية

 

Email