المفكر والاستقراء الموضوعي

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقع على عاتق المفكرين والمثقفين مسؤولية كبيرة تجاه مجتمعاتهم وأوطانهم، وذلك بأن يسهموا بشكل فعال في بناء الوعي الرشيد، وغرس القيم الإيجابية، والمواطنة الصالحة، وتكريس المفاهيم الصحيحة، وعلاج المشكلات بعلم وحكمة، والتعاطي الإيجابي مع هموم وقضايا مجتمعاتهم، بما يغرس الأمل والتفاؤل والتلاحم والتكاتف، ويُسهم في إطفاء الخلافات والنزاعات، ويعمل على تكريس السمعة الطيبة للوطن من نافذتهم كمفكرين قدوات.

ولا يتأتى ذلك إلا بأن يأخذ المفكر بالمقومات التي تعينه على ذلك، ومنها أن يكون خطابه وسطياً متوازناً، يوازن بين جميع المتطلبات، ويكون وثيق الصلة بمجتمعه، يعزز الثقافة الإيجابية الموجودة فيه، ويضيف إليها أي جديد مفيد، بعيداً عن النهج الراديكالي الذي يرمي إلى هدم كل موجود، وإحلال أي جديد مفقود، فيكون غريباً شاذاً على المجتمع، منقطع الصلة عنه، لا ينسجم مع ثقافته وهويته من قريب أو بعيد، فلا يلقى بسبب ذلك قبولاً، ولا يجد أي صدى، ويكون حال المفكر حينئذ كمن يسعى إلى زرع شجرة في الهواء حيث لا تربة ولا جذور!

ومما يحتاجه المفكر كذلك وبشدة طلب الحقيقة وقصد الحق، بعقل مفتوح وقلب راغب، ومن لوازم ذلك أن يتحلل من أي قيود حزبية أو أيديولوجية تسيطر عليه، وتوجه تفكيره وخطابه، فيخرج عن نطاق الموضوعية في أطروحاته، لأن حزبيته وأيديولوجيته تدفعانه دفعاً إلى حشد الأدلة والبراهين لتأييد ما يخدم أجنداته الضيقة، سواء كان نصاً دينياً أو نظرية علمية أو مبدأً اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو فلسفياً أو غير ذلك، فيعمل على توظيف ذلك كله لخدمة أجنداته، بقلب الحقائق، وتزييف المعلومات، والأخذ بالتأويلات البعيدة، وربما تقويل الأطراف الأخرى ما لم يقولوه، ونسبة أفعال إليهم لم يفعلوه، انتصاراً لرأيه الحزبي أو فكره الأيديولوجي، وبالتالي يقع في شراك التعصب الأعمى، فلا يقبل إلا ما وافق حزبيته أو أيديولوجيته، مهما كان الحق الذي عند غيره واضحاً كوضوح الشمس، فلا يجد غضاضة من أن يصر على رأيه قائلاً: عنزة ولو طارت!

ولا شك بأن المفكر إذا كان مكبلاً بهذه القيود الحزبية والأيديولوجية فإنه لا يخدم مجتمعه، بل يصبح شراً ووبالاً عليه، وقد يقع في أسر التنظيمات المتطرفة، وخاصة في ظل الاستقطاب الفكري الذي تمارسه تيارات كثيرة تروج لأجنداتها ومشاريعها الخاصة، مثل التيار الإخواني والسروري، حيث إنهم يسمون بعض من ينتسب إليهم بالمفكرين، وهم في حقيقة الأمر ليسوا مفكرين أحراراً، بل هم منظرون حزبيون وأيديولوجيون، وكذلك من يسمون أنفسهم في عصرنا هذا بالقرآنيين، ويحاولون أن يظهروا أنفسهم بمظهر التسامح والاعتدال تمويهاً وتدليساً!!

وهم في حقيقة الأمر مع نظائرهم المتشددين في مركب التكفير، والغلو في الحاكمية، حيث يتهمون أمة الإسلام بالشرك بالله تعالى والكفر بالقرآن الكريم، ويزعمون أن كل من آمن بالسنة النبوية مصدراً للتشريع فقد كفر بحاكمية الله تعالى، ويؤولون النصوص القرآنية على غير تأويلها الصحيح، وغيرها من التيارات الفكرية المعاصرة التي تنثر بذور التطرف والتشدد والفتنة، ويرتدي منظروها لباس المفكرين، أو يروجون لأنفسهم في سوق المفكرين لاستقطاب هذا أو ذاك، وبالتالي يجب على المفكر أن يتحلى بالتفكير النقدي السليم والاستقراء الموضوعي لرد تلك الحزبيات والأيديولوجيات.

ومما يحتاجه المفكر كذلك التأني، وحسن النظر في الموضوع الذي يتناوله، والإلمام بجوانبه، واستيفاؤه حقه من البحث والمطالعة والاستقراء الموضوعي، وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام، وسلوك المنهج العلمي الذي يوصله لاستخلاص النتائج المناسبة، والرجوع إلى المصادر الأصيلة، والدقة والأمانة في النقل، واحترام التخصصات الأخرى، وعدم الخوض فيما لا يحسنه من الفنون والعلوم، وقديماً قيل: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، وذلك يقتضي بالضرورة أن يتحلى المفكر بالتواضع، والانضباط، والاجتهاد في معرفة ما يحتاج إليه من علم أو واقع.

ومما لا غنى للمفكر عنه التحلي بالحكمة في التعاطي مع المسائل والقضايا، وخاصة ما يتصل منها بمجتمعه، فيتعامل معها برؤية عميقة، ويتأمل ما ينتج عن خطابه من عواقب ومآلات، وما يحققه من مصالح، ويدفع من مفاسد، وينسجم مع رؤية قيادته ومصالح وطنه العليا وما يخدم مجتمعه ويرتقي به.

 

Email