خرافة العشرة بالمئة من أدمغتنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

مثل كل الناس، سمعت أكثر من مرة، وعلى مدى عشرات السنين، ترديد بعضنا لجملة تشير إلى وضع سلبي أكثر منه إيجابياً، أو هو أقرب إلى الإدانة منه إلى التعبير الاعتيادي البريء، وهي: إننا لا نستخدم من أدمغتنا سوى نسبة 10%، لتبقى نسبة الـ 90% مهملة، وخارج الاستعمال. وجملة كهذه كفيلة بأن تعزز النقائص لدى الإنسان - القائل والمستمع - أكثر منها باعثة على الأمل والعمل. ولو فرضنا جدلاً أن هذه المقولة «سليمة»، فلمجرد ذكرها وترديدها كفيل بتثبيط الإنسان ألا يحاول أن يجد طريقة لاستعمال نسبة الـ 90% المتبقية من دماغه بنجاح، ليصبح عبقري زمانه في الأصعدة كافة. ويزيد هؤلاء المتداولون من باب إقناع مستمعيهم ربما، بضربهم مثالاً بعالم الفيزياء الألماني الأصل، الأمريكي / السويسري الجنسية، صاحب «النظرية النسبية» التي نال عليها جائزة نوبل للفيزياء عام 1921. العالم ألبرت أينشتاين (1955-1879)، وذلك بالقول: ما كان لينجح أينشتاين في بحثه حول نظرية النسبية غير المسبوقة، لو لم يستعمل نسبة 90% من دماغه. السؤال: هل اعتقاد كهذا هو حقيقة أم خرافة؟ 

وقبل حسم الموضوع، يجدر القول إن دماغ ألبرت أينشتاين قد تم استخراجه بعد الوفاة، وأخذ له صور عديدة، موجود منها حالياً 14 صورة في المتحف الوطني للصحة والطب بمدينة ماريلاند، فيما حفظت أجزاء من دماغه في المركز الطبي الجامعي بمدينة برينستون بأمريكا.

وأينشتاين، لكي يبسط فكرة نظريته النسبية للأشخاص المهتمين والصحافيين، اخترع لهم قطاراً سمّاه «قطار أينشتاين»، يشبه آلة الزمن، وسرعته أكبر من سرعة الضوء المقدّرة بمليار كيلومتر في الساعة. لكن أغلب الذين شرح لهم نظريته لم يفهموها. وينقل عن زوجته «السا أينشتاين» التي زارت واشنطن بعد وفاته، وحال نزولها من الطائرة تحلّق حولها الصحافيون وطرحوا عليها سؤالهم القديم المتجدد: ما الذي تعلمه، ولا يعلمونه هم، عن النظرية النسبية وقطار أينشتاين؟ فكان ردها: شرحها لي 20 مرة لكن في كل مرة كنت مثلكم، أنساها، فاعذروني.

إن ما يردده الناس من أننا نستخدم نسبة 10% من أدمغتنا هو محض خرافة لا أساس علمياً لها ألبتة؛ فدماغ الإنسان معجزة ولم يحط العلم سوى بالقليل من تفاصيله وآليات عمله، لكن رغم ذلك فقد توصل العلماء إلى معرفة بعض مهامه الضرورية؛ فدماغ الإنسان، إلى جانب قيامه بملايين الأعمال اليومية، فإنه يقوم أيضاً بتأليف المقطوعات الموسيقية، وإصدار البيانات والتصريحات، ويتوصل إلى حلول عبقرية للمعادلات، وهو منبع المشاعر الإنسانية والسلوكيات والخبرات كلها، ومخزن الذاكرة والوعي بالذات، ما يجعله لغزاً محيراً للعلماء المتخصصين. لكن خرافة الـ 10 % من الدماغ، يقول عالم الأعصاب بكلية الطب بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية، الدكتور باري جوردون، إنها خرافة مغرية لكنها خطأ تماماً، بل مثيرة للضحك، ورغم عدم وجود متهم بإطلاق هذه الأسطورة، فقد نسبت إلى عالم النفس الأمريكي ويليام جيمس، إذ وردت في كتابه «طاقة الرجال» بالشكل التالي: إننا لا نستخدم سوى جزءٍ ضئيلٍ من مواردنا العقلية والجسدية. 

وبعد أن انتشرت هذه الجملة، جرى ربطها بالخطأ بالعالم ألبرت اينشتاين، الذي يعتقد أنه استخدمها في شرح ذكائه الكوني المتزايد. ويذهب جوردون إلى أن صمود هذه الخرافة ينبع من فكرة البشر عن أدمغتهم، فهم ينظرون إلى عيوبهم ونقائصهم على أنها دليل على وجود مادة رمادية في الدماغ غير مستغلة. وهو اعتقاد خاطئ، والصحيح أنه في أوقات معينة من حياة كل إنسان، كأوقات الاسترخاء والتأمل، لا نستخدم أكثر من 10% فقط من أدمغتنا. لكن المؤكد أننا نستخدم فعلياً كل جزء من أجزاء الدماغ، وأن معظم الدماغ يكون نشطاً في معظم الأوقات؛ فالدماغ يشكل 3% من وزن الجسم لكنه يستخدم 20% من طاقة الجسم. ويزن دماغ الإنسان في المتوسط 1.4 كيلو غرام تقريباً، ويتكّون من الدماغ الكبير المسؤول عن الوظائف الإدراكية العليا، والمخيخ المسؤول عن الوظائف الحركية مثل تنسيق الحركة والتوازن، وجذع الدماغ المسؤول عن الوظائف غير الإرادية كالتنفس. ويستخدم الدماغ معظم طاقة الجسم في الإطلاق السريع لملايين الخلايا العصبية التي تتواصل مع بعضها بعضاً؛ فهذه الخلايا العصبية هي التي تقف وراء كل الوظائف العليا للدماغ، بينما تستخدم باقي الطاقة للسيطرة على الأنشطة الأخرى: اللاشعورية منها مثل ضبط نبضات القلب، والشعورية منها مثل قيادة السيارة.

Email