«الفساد» على رأس أجندة رئيس الوزراء العراقي

ت + ت - الحجم الطبيعي

العراق بلد لا يمكن تجاهل دوره في رسم معادلات التوازن السياسية والعسكرية في العالمين العربي والشرق أوسطي. فقد فرض حضوره ليس فقط بجيشه القوي الذي خاض حرباً ضروساً مع إيران على مدى ثماني سنوات، بل بنفوذه سياسياً على المستويين الرسمي والشعبي عربياً. ضعفه أو قوته لهما تداعيات على استراتيجيات الأمن القومي لجميع دول المنطقة وخاصة الدول الخليجية، فهناك قناعات نضجت مؤخراً تفيد بأن «ضعف العراق أكثر خطورة على أمن المنطقة من قوته».

بداية نحن لا نطرق موضوعاً جديداً حين نفتح ملف «الفساد» في العراق، فقد سبق في السنوات السابقة أن نشرنا أكثر من مقال عن هذه الآفة التي تنشر سمومها في العراق وتمتص عروقه وتحجّم من دوره في المنطقة، فليس الغرض إعادة تسليط سياط التقريع على ظهور الآلاف من العاملين في أجهزة الدولة من المنخرطين في سياقات الفساد ممارسين له أو صامتين إزاءه وهم على أية حال يستحقونها، بل تسليط الضوء أمام رئيس الوزراء الجديد على العقبات التي تعيق اجتثاث عرّابي هذه الآفة وتسمح لهم في إعادة فرض هيمنتهم.

«الفساد» ينشأ عادة في الدول التي تحكمها أنظمة شمولية، لأن المبدأ المعتمد في أروقتها هو «الولاء» قبل «الكفاءة» لإشغال أي موقع قيادي قريب من صناعة الاستراتيجية ورسم السياسات.

مفردة «الفساد» لم تكن متداولة في الوسط السياسي والاجتماعي في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية مطلع العشرينيات من القرن الماضي رغم عدم غياب قدر من الفساد في ظل أي نظام سياسي وفي أي بلد في العالم وفي أي وقت من الأوقات، إلا أنها أصبحت متداولة على نطاق ضيق منذ بداية تسعينيات ذلك القرن عند فرض الحصار على العراق إثر غزوه للكويت، مما ترك تداعيات مدمرة على الاقتصاد العراقي وعلى عملته الوطنية وأدى في نهاية المطاف إلى ارتهانه عبر سن قانون «النفط مقابل الغذاء» برعاية الأمم المتحدة.

من أبرز نتائج التغيير السياسي في العراق بعد 2003 هو شيوع استخدام هذه المفردة في مختلف أوساط المجتمع، لأن الفساد على المستويين المالي والإداري أصبح شائعاً جداً، وأصبحت له انعكاسات خطيرة على مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فهو المعطل الأساسي لخطط التنمية والمعيق لعودة العراق إلى دوره الفاعل في المنطقة. فقد أصبح «الفساد» ثقافة متأصلة وقانوناً طبيعياً منظماً لآليات الحكم، حيث توسعت خريطته الأفقية والعمودية، مما يسمح لنا بالقول بأن جوهر الفساد في العراق ذو طابع سياسي تنخرط فيه بهذا القدر أو ذاك معظم إن لم يكن جميع القوى السياسية الضالعة في رسم المشهد السياسي في العراق. فوفق مؤشر المنظمة الدولية للشفافية لعام 2021 يحتل العراق الموقع 169 من بين 180 دولة أي بتسلسل 11 من قعر مؤشر مستويات مدركات الفساد.

استقالة وزير المالية الدكتور علي علاوي في السادس عشر من أغسطس 2022 بسبب عدم قدرته على مقاومة الفساد في وزارته والإحاطة غير العادية في مجلس الأمن الدولي لممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق جينين بلاسخارت في الرابع من أكتوبر 2022، والتي كان جلها حول حجم الفساد المستشري في البلد مُدينة كل القوى المساهمة في العملية السياسية، والتي أوصلت الشعب العراقي حسب تعبيرها إلى خيبة وصلت عنان السماء.

احتل التصدي للفساد المرتبة الأولى في البرنامج الحكومي الذي قدمه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مُطلقاً مصطلحاً جديداً هو «جائحة الفساد»، ومُشدداً على أنه ليس هناك من خطوط حمراء يمكن أن تكون عائقاً في مقاربة أي رأس من رؤوسه.

لسنا هنا بصدد مناقشة هذا البرنامج، بل التوقف أولاً عند مصطلح «جائحة الفساد»، فالسوداني لم يكن موفقاً في توصيفه هذا، فالجائحة أشبه بالإعصار الذي يدمر بعنفوانه من يقف أمامه ليعود للانحسار بعد ذلك، في حين أن الفساد الذي لدينا مرض مستوطن منذ عشرين سنة تنمو أغصانه كلما قُطعت بعض أوراقه.

والتوقف ثانياً عند عزمه إسقاط الخطوط الحمراء التي تحول دون مواجهة حيتان الفساد، خاصة أنه من العارفين جيداً بأن هذه الحيتان هي «الدولة العميقة» التي تضم كبار عرّابي العملية السياسية التي تحتمي بسلاح الميليشيات، فهل يرى رئيس الوزراء العراقي أن التصدي للفساد ينبغي أن يبدأ بالتصدي لهذه الميليشيات ونزع أسلحتها؟ وهل لديه حقاً الإرادة لفعل ذلك؟.

*كاتب عراقي

Email