مجرمون وضحايا على الأثير

ت + ت - الحجم الطبيعي

لفت انتباهي خبر متداول عن فتح دعويين قضائيتين في أبوظبي بسبب إفشاء محادثات على «واتساب». رغم أن هذه ليست المرة الأولى التي تصل فيها منازعات أو حتى جرائم مصدرها منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحات القضاء، لكن تصاعد عددها بالإضافة للتفاصيل المثيرة غير المعتادة في كل منها جديرة بالاهتمام.

مثل هذه القضايا التي تنشأ على الأثير وتتطور عليه لتصل إلى درجة خصومة ووقوع اعتداء وطلب قصاص أو توقيع عقوبة، يعني أننا بصدد صفحة جديدة من صفحات الجريمة.

«جرائم الإنترنت» عبارة ذائعة الصيت، لكن ما تعنيه يظل قاصراً على كلاسيكيات الجرائم على الأثير: محاولة اختراق حساب، سرقة معلومات، تزوير هوية، ابتزاز، نصب واحتيال وغيرها. هذه الجرائم قد يرتكبها فرد ضد آخر، أو ضد جهة، أو ضد دولة. وربما ترتكبها دولة ضد أخرى أو ضد أفراد أو جماعات.

لكن أن يفشي أحدهم نص محادثة شخصية بينه وبين آخر جرت على «واتساب»، أو يوجه أحدهم تهديداً لآخر عبر تعليق على تدوينة على «فيسبوك» حتى لو لم يكن جاداً فيه، أو يدفع أشخاصاً آخرين عبر منصة عنكبوتية لارتكاب جريمة أو المشاركة في عمل خارج على القانون وغيرها كثير تستوجب شكلاً مبتكراً من أشكال التوعية للكبار والصغار على حد سواء.

الوعي والثقافة والمعرفة القانونية، وكذلك بالحقوق والواجبات أمر مهم. لكن العالم يتغير بسرعة رهيبة. والتغيير الذي طال كل أوجه الحياة، حيث التكنولوجيا الرقمية في القلب من هذا التغيير، امتد إلى منصات الـ«سوشيال ميديا» التي «يعيش عليها» ما لا يقل عن 4.74 مليارات شخص، بينهم نحو 275 مليون عربي من مجموع 453 مليون نسمة مجموع التعداد العربي.

هذا الامتداد الكبير متعدد الفوائد والمنافع، لكنه أيضاً متعدد المساوئ والأضرار. هذه الأضرار تتفاقم كلما تضاءل الوعي بمنظومة الإنترنت وطريقة عمل الـ«سوشيال ميديا». جهات بحثية عدة تنبهت لقدرة منصات التواصل الاجتماعي على خلق بيئة جاذبة للجرائم. هذا الجذب قد يتحقق بسبب أشخاص لديهم قابلية أو استعداد لارتكاب جرائم، أو هم مجرمون بالفعل ويعملون على توسعة قاعدة نشاطهم. وربما يحدث الجذب بسبب عدم الوعي الكامل بإمكانات المنصات الرقمية، فيقع المحظور، ويرتكب أحدهم جريمة ويقع الآخر ضحية.

ضحايا - وأحياناً مقترفو - الجرائم الإلكترونية غير التقليدية، أي البعيدة عن جرائم الكراهية والتحرش والابتزاز والكراهية، يعانون معاناة مضاعفة. يقع هؤلاء ضحايا لجرائم إفشاء أسرار عمل، أو مشاركة محتوى قد يكون داعماً بطريقة غير مباشرة لأفكار إرهابية، أو إعادة تغريد أو تدوين كتابات يعتبرها آخرون تهدد سلامتهم، أو كتابة ما يراه آخرون تحريضاً على فسق أو أعمال منافية للآداب وغيرها من الجرائم التي تحتمل العديد من التفسيرات. ويفاقم من صعوبة الوضع عدم وجود نصوص قانونية كافية أو شاملة لشتى أنواع الجرائم أو الخروقات المتعلقة بـ«السوشيال ميديا»، وذلك لسبب بسيط. وسائل التواصل الاجتماعي في حالة تغير مستمر، واستخداماتها في حالة حراك لا يتوقف، وتطويع إمكاناتها لا يقف عند حدود بعينها.

حدود الخروقات والجرائم على المنصات مفتوحة على مصراعيها. أليست هذه هي طبيعة الإنترنت ومنصاتها؟ لكن يبدو أن هذه الحرية والانفتاح وغياب الحدود والقيود ليست بالضرورة محاسن منزوعة الأخطار والأضرار. إفشاء محادثة بين شخصين على «واتساب» يمكن أن تكون جريمة. إعادة مشاركة تغريدة أو تدوينة يبدو إنها تحمل تفسيراً دينياً لكنها في حقيقة الأمر تحريض على كراهية قد تصبح جريمة. والأمثلة كثيرة، وتتجدد بينما نتحدث.

الجرائم الإلكترونية جعلت القوانين تلهث وراءها في مشارق الأرض ومغاربها. فبعد سنوات من التعامل مع العالم الرقمي الافتراضي باعتباره منفصلاً تماماً عن عالمنا حيث لا قانون يحكمه أو قيد يحدده، إذ بأحداث سياسية وأمنية واجتماعية واقتصادية جلل تخبرنا أن العالم الافتراضي لا يقل خطورة عن العالم الواقعي، وأن قدرته على جذب المجرمين والخارجين على القانون والإيقاع بالأبرياء والسذج تفوق قدرة العالم الواقعي بمراحل.

ويبدو أن دولاً عدة تتحسس طريقها في مجال الربط بين الإجراءات الجنائية وبين عالم الـ«سوشيال ميديا». البعض يخشى أن يؤدي هذا الربط إلى النيل من الحريات والتأثير سلباً على مبادئ الليبرالية والديمقراطية. لكن المخاوف فيما يتعلق بتمدد قاعدة الخطر إن هي تركت أكبر.

ما زلنا في أول طريق الربط بين ما هو جنائي وما هو إلكتروني، لا سيما فيما يتعلق باستخدامات الأفراد العاديين لحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وإلى أن يصل العالم لمفهوم واضح حول ما يعد جريمة وما يعد سوء تصرف أو تعبيراً، فإن التثقيف والتوعية والحرص هي الحل.

 

 

Email