طفل في معرض الكتاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

للأفعال الأولى في حياتنا دائماً متعة ولذة وحنين، لا يعادلها غالباً تكرار التجربة نفسها، مهما تراكمت، لدرجة أننا قد نشفق على من حرم معايشتها، وكثيراً ما يتحدث الناس عن سحر تلك التجربة، التي تشبه في خيالهم وذاكرتهم الومضة، وأحياناً تأخذهم الألفة إلى كتمانها وعدم البوح بها، كأنها تحولت إلى ملمح أصيل من الملامح الخفية للشخصية، تشكلها، وتؤطرها وتتحكم في توجهاتها. من وراء ستار النفس البشرية، ذلك الحاجب الأمين على ذكرياتنا ومشاعرنا وتفاصيلنا المستترة.

يتحدث الناس عن الحبيب الأول، عن أول أيام الجامعة، فرحة إنجاب المولود البكر، أول الأسفار خارج الديار، وللناس فيما يتعلقون، وبعض التعلق عشق ومذاهب.

وفي تلك الأيام التي لا نزال فيها في حضرة الكتاب، في ظل انعقاد فعاليات الدورة الـ41 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب والمستمرة حتى الـ13 من نوفمبر الجاري، تبدو فرص صناعة ذكريات مهمة مرتبطة بالكتاب مرتفعة عن أي وسيط آخر، بل إن الكتاب نفسه قادر، عبر عوالمه اللامحدودة، على صناعة ذكريات جديدة للمحبين والدارسين وهواة السفر والاستكشاف، وحتى التواقين لتجربة أمومة أو أبوة وغيرها، ورب قصة أو رواية أو قصيدة، أو حتى تفاصيل معرفية بين دفتي كتاب أبلغ تأثيراً وأدوم أثراً من ماضٍ طوته السنون.

الذكرى التي أقصدها هنا مرتبطة بالأطفال واليافعين الذين يتوجهون أول مرة إلى معرض للكتاب، وإذا كانت العديد من الدراسات والآراء السيكولوجية، والخبرات البشرية أيضاً تؤكد أن الانطباع الأول أكثر ديمومة، بل يصعب تغييره وتعديله في حال ارتباطه بخبرات ذاتية، فإنه يجب علينا أن نجعل هذا الانطباع قرين السعادة والمتعة والمشاركة التفاعلية التي تحفز الأطفال على الرغبة في تكرار التجربة، بعد أن يكون سحر الفعل الأول قد صبغ وجدانهم، وشكل خبراتهم الإيجابية تجاه الحدث.

في العادة تحرص معارض الكتب على أن تكون وجهة محببة لهذه الفئة، فتخصص برنامجاً حافلاً لهم، يطغى ربما من ناحية عدد الفعاليات، على محتوى أجندتها الشاملة، وهو ما تحقق بالفعل بالنسبة لمعرض الشارقة للكتاب، في معظم دوراته، ومنها الدورة الحالية، لتصبح الكرة في ملعب الأهل، وفي ملعب المدارس أيضاً التي تخصص رحلات لطلابها لزيارة المعرض.

ومن المهم إذاً أن تكون رحلة أطفالنا إلى معارض الكتب رحلة استثنائية تسهم في دعم تلك البذور الأولى التي يتم نثرها، كي تنمو ويصلب عودها، وتزهر قارئاً واعياً مقبلاً على فعل القراءة وصداقة الكتب التي تسهم في تكوين حصاده المعرفي الفكري والثقافي، وليس هناك ما يمنع اقتباس بعض أدوات المؤسسات الترفيهية التي نجحت في جذبهم إليها على مدار العام، لا في مواسم وفترات مقتضبة فقط، مثل المدن الترفيهية ودور السينما وغيرها.

وعلى المستوى الشخصي فبعد أكثر من 4 عقود، ما زلت أذكر خطوات البدايات التي قادت طفلاً في الصفوف الأولى من مرحلة الدراسة الابتدائية إلى هذا المعرض العريق على أطراف القاهرة حينها، معرض القاهرة الدولي للكتاب، ليشتري كتب المغامرات والقصص التي تجري على ألسنة الطيور والحيوانات والنباتات، يتعرف إلى أسماء دول أول مرة من عناوين أجنحتها، ويقف عند ألوان أعلامها متعجباً مندهشاً من ذلك العالم الذي اكتشفه بعيداً عن منزله وحيه ومدرسته، باحثاً عن كتب مصورة لا تزيده إلا نهماً لأخرى أكبر منها، ربما تروي ظمأ تسرب ولم يكتب لصاحبه قط الارتواء من سيل الكتب، مهماً تعددت المدن وتتابعت المعارض.

هذه الرحلات الأولى لأطفالنا لا يمكن أن تتم في أعقاب يوم مزدحم بالحصص المدرسية، ولا يمكن أن تتم من دون تحفيز وتشجيع وتهيئة المكافأة المناسبة لهم، وكل ما من شأنه قضاء رحلة ممتعة لا تنسى في رحاب معرض الكتاب.

Email