بعد الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي سادت بريطانيا على مدى الأسابيع الستة الأخيرة، يواجه رئيس الوزراء الجديد، ريشي سوناك، ووزير الخزانة الجديد أيضاً، جيريمي هانت، تحديين اقتصاديين شديدي الإلحاح، فضلاً عن كونهما شديدي التداخل مع بعضهما البعض.

ويتمثل التحدي الأول في معدل التضخم الجامح، وتبعاته شديدة الصعوبة على مستويات المعيشة في بريطانيا. وأما التحدي الثاني، فهو تباطؤ الاقتصاد البريطاني، وما ينذر به، حال استمراره لفترة طويلة، من تبعات تتمثل في تدهور الآفاق الاقتصادية لبريطانيا.

واستأثر التحدي الثاني بالاهتمام الإعلامي خلال الفترة الأخيرة، ذلك أن الميزانية «المصغرة» التي اقترحتها رئيسة الوزراء السابقة، ليز تراس، وهي الميزانية التي كانت تداعياتها الاقتصادية السلبية سبباً رئيساً ومباشراً في استقالتها من منصبها بعد 44 يوماً فقط من تسلمها إياه، لتصبح هي رئيسة الوزراء صاحبة فترة الولاية الأقصر في التاريخ البريطاني على الإطلاق، أظهرت الحدود التي تتحرك في نطاقها الحكومة البريطانية.

لقد أدت الميزانية إلى حدوث عجزين متزامنين هائلين، أحدهما مالي، والآخر في الحساب الجاري للحكومة البريطانية، وذلك بما تضمنه من خفض هائل وغير ممول في قيمة الضرائب المفروضة على البريطانيين الأثرياء. وبدورهما، تسبب العجزان في إرهاق الأسواق البريطانية على نحو حاد.

وبرغم أن تراس سرعان ما تراجعت عن هذا التخفيض، كي تنقذ ما يمكن إنقاذه، إلا أن الخفض كان بمثابة طلقة تحذيرية ضد خطر داهم. لقد وضعت الفوضى الاقتصادية الناجمة عن قرار الخفض المصداقية المالية للحكومة البريطانية على المحك. ومن ثم، باتت استعادة هذه المصداقية على رأس أولويات سوناك.

ولكن ليس من الواضح بعد الطريق الذي سيسلكه سوناك ووزراؤه لاستعادة المصداقية. ويبدو من المرجح أن «مكتب مسؤولية الميزانية» سيقول إنه من دون اتخاذ إجراء سياسي، ستكون الحكومة البريطانية بعيدة عن مستوى استقرار الديون كجزء صغير من الدخل القوي للبلاد بقيمة 30 مليار جنيه استرليني بعد بضع سنوات.

وبرغم أن مبلغ 30 مليار جنيه استرليني لا يعد كبيراً في غضون 3 أو 5 سنوات من الآن، إلا أن ثمة حالة من التقلبات الهائلة وانعدام اليقين إلى حد بعيد حيال آفاق الاقتصاد البريطاني.

فلا أحد يعلم يقيناً ما إذا كان الوضع المالي في بريطانيا سيكون بعد ثلاث أو خمس سنوات من الآن أفضل أم أسوأ. ومن شأن أي تغيير طفيف نسبياً في معدل التضخم أو النمو أن يخفف من حدة الفجوة التمويلية الراهنة في بريطانيا، أو يفاقم اتساعها.

وفي ظل هذه الظروف الضبابية، فمن المنطقي أن يقول هانت: «أفضل أن ننتظر ونرى»، بدلاً من اتخاذ أي إجراء متسرع، ثم وعد الشعب البريطاني لاحقاً بنسب غير محددة من الخفض في الإنفاق أو الزيادة في الضرائب، إذا تبينت ضرورة اتخاذ إجراءات مثل هذه.

لقد فعل وزير الخزانة الأسبق، أليستر دارلينغ، شيئاً كهذا في عام 2009، إلا أن هانت يواجه عقبة تتمثل في أن الأسواق في وضعها الراهن قد تتطلب قدراً أكبر من اليقين ومن التحركات الاستباقية، بعد أن عانت من النتائج الكارثية التي خلفتها ميزانية تراس «المصغرة».

وفي ظروف كهذه، فإن أي خطأ في اتجاه واحد عند التحرك قد يسبب ارتفاعاً مدمراً آخر في أسعار الفائدة على سندات الدين الصادرة عن «بنك إنجلترا» نيابة عن وزارة الخزانة البريطانية.

والمعروفة أيضاً باسم «الأوراق المالية ذات الحواف المذهبة»، أو «السناج القصيرة»، وتراجعاً محتملاً في قيمة الجنيه الاسترليني، ما يؤدي بالتبعية إلى المزيد من التضخم، ما يعني في نهاية الأمر تأثيراً سلبياً لم تكن له أدنى ضرورة على دخل الأسر البريطانية أو مستويات الخدمات العامة التي تتمتع بها هذه الأسر.

هذا هو التداخل بين التحديين، الذين تحدثنا عنهما في المقدمة. تلتقي أزمة ارتفاع كلفة المعيشة على البريطانيين مع أزمة المصداقية المالية البريطانية في وضع معقد لم تألفه بريطانيا من قبل، فهل يستطيع سوناك وهانت فك العقدة؟

* صحافي وكاتب لدى صحيفة «فاينينشال تايمز»

ترجمة بتصرف:سيد صالح