حصان طروادة الرقمي.. ما خفي «أخطر»

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يموت حصان طروادة أو بمعنى أدق، لا تموت فكرته، وبين الحين والآخر يصادفنا حصانٌ جديدٌ، يخفي ما يُرجى تمريره، من أجل نشر مفاهيم ما، أو سلوكيات بعينها، أو حتى فرض واقع جديد، وحصان طروادة هذا الزمان ينطبق على الكثير من المحتوى المرئي القادم إلينا عبر منصات البث الرقمية، وما خفي من قدرات «طروادة العصر»، وأبعاد تأثيره قد يكون أعظم مما تداول أو كُشِف، وسيكون تأثيره حتماً أخطر وأبعد لو لم يتم التعامل معه بجدية ويقظة ووعي ومسؤولية.

لن يكون المحتوى الذي تم بثه عبر شبكة «نتفليكس» أخيراً، ووصفه بيان الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع ولجنة مسؤولي الإعلام الإلكتروني بدول مجلس التعاون الخليجي بأنه «محتوى مخالف لضوابط المحتوى الإعلامي في دول المجلس»، هو المحتوى الأخير الذي يثار حوله الجدل من نتاج هذه المنصة أو سواها، لكننا على يقين بأن هيئة تنظيم الاتصالات، ومكتب تنظيم الإعلام، في دولة الإمارات، سيتصديان لأي تجاوزات في هذا الشأن بالقرارات والآليات المناسبة.

هذا ما أكداه بالفعل عبر بيان مشترك أشارا فيه إلى أنه تم التواصل مع «نتفليكس» لإزالة محتوى مخالف للمبادئ المجتمعية بالدولة، وبصفة خاصة المحتوى المخالف الموجه لفئة الأطفال، وأنهما سيراقبان مدى التزام المنصة بضوابط البث في الدولة، وسيقومان باتخاذ الإجراءات اللازمة في حال بث أي مواد تتعارض مع الأنظمة والقوانين السارية.

ومع الدور الذي تقوم به المؤسسات الرسمية وضوابطها التي تحمي المجتمع من مثل هذه النوعية من المحتوى، يبقى هناك دور آخر لا يقل أهمية في هذا الشأن، وهو دور الأسرة والوعي الذي تغرسه في أفرادها، انطلاقاً من الوعي الذي يتمتع به عموداها ورباناها «الأبوان».

حيل حصان طروادة العصر، لا تمس منظومة القيم المجتمعية فقط، ولا تقتصر على بعض المشاهد التي يمكن حذفها، ثم متابعة العمل الدرامي، أو حتى حظر بث محتوى أو عدد من الأعمال، وهو لا يقتصر تأثيره على نشر فكرة أو حتى عدد محدود من الأفكار، فهذه النوعية من الأعمال التي نشير إليها هنا، تعمل على صنع نسق وأيديولوجيا وقيم مغايرة لا تناسب المجتمعات المستقبلة لها ولا تتواءم مع ثوابتها وصالحها، وإن تم زجها ضمن رسائل ظاهرها إيجابي.

ما يمرره «طروادة» الرقمي قد يأتي حتى عبر تفاصيل صغيرة تمر بسلاسة عبر أدق مصافي الرقابة الاعتيادية، لكنها مجتمعة تُكمل فسيفساء لوحة مصنوعة بعناية وصبر وتأنٍ، لن تسر حين اتضاح معالمها حتى أكثر المتحمسين لها، ومن يرون أن الإشارة إلى تقييد سن المشاهدة بعبارة استهلالية، أو التنويه باحتواء العمل الفني على محتوى غير مناسب هو بمثابة إخلاء مسؤولية مقبول.

من هنا فمع اختيارنا الثابت الحفاظ على نوافذنا المعرفية والفكرية والإبداعية مشرعة، وبقائنا متفاعلين مع نتاج العقل والخيال البشري على تنوعه المدهش والثري، علينا دعم قرارات مؤسساتنا الوطنية في موقفها مما تنتجه منصات البث الرقمية، وهو ما يجب أن يكون بالتوازي مع تعزيز الوعي لدى أبنائنا، وتنمية حسنا وحسهم النقدي للنهوض بمسؤولية اختيار ما يستحق المشاهدة، ولفظ كل ما من شأنه أن يكون مخالفاً لنسقنا القيمي والمجتمعي، وثوابتنا وهويتنا التي نعتز جميعاً بها، حتى وإن لم يصدر بشأنه «بيان» رقابي أو تنظيمي، فآلة إنتاج المحتوى الرقمي لا تتوقف، ونتاجها وما يحمله حصان طروادة الرقمي، بحاجة إلى تكاتف جميع مقومات النسيج المجتمعي، مؤسسات وأفراد، تكاتف لا يستثني أيضاً نقاد المحتوى المؤهلين والواعين بدورهم ومسؤولياتهم.

في عصر ما قبل السماوات المفتوحة كانت مؤسسات الإعلام المرئي تمتلك كوادرها الرقابية بمسميات مختلفة، وهو رقيب كان كثير الوقوع في مجابهات دائمة مع صناع المحتوى، لكنه كان في كل مرة يحسم الأمر وقد «قص» ما قص، وحذف ما حذف، واستبعد ما رآه هو غير لائق، باعتباره «سيد قراره».

والآن وقد تغيرت قواعد «لعبة» البث، أصبح المشاهد هو سيد قراره، وبإرادته وفعله فقط، تتحدد اتجاهات انطلاق الكرة المستقرة وفق القواعد الجديدة بملعبه، فهو رقيب ذاته، المنفتح على خيارات لا نهائية من المشاهدة، وهو انفتاح لا يعوزه الرشد حينما تعضده مسؤوليات الحفاظ على ثوابت منظومته المجتمعية، والوعي بما قد يكون غير مرئي في جوف «طروادة الرقمي». 

Email