الاستقطاب في «زمن بلا يقين»

ت + ت - الحجم الطبيعي

يبدو أن العالم اكتفى في العقود القليلة الماضية بإطفاء الحرائق كلما نشبت، ويبدو أن الجهود التي بذلت للعمل على عدم تكرار نشوب الحرائق كانت شبه غائبة.

العالم منشغل حالياً بمحاولات السيطرة على آثار «حريق» كوفيد 19، والسيطرة على «حريق» حرب روسيا في أوكرانيا، وتطويق «حرائق» الجفاف والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة وغيرها من الحرائق المشتعلة هنا وهناك.

للمرة الأولى منذ 32 عاماً هي عمر تقارير التنمية البشرية، يصدر تقرير هذا العام لينبئنا بانخفاض قيمة مؤشر التنمية البشرية الذي يقيس أوضاع الصحة والتعليم والمستويات المعيشية في العالم لعامين متتاليين. وللمرة الأولى تسجل تسع بين كل عشر دول تراجعاً في مؤشرات التنمية لديها.

هذا التراجع ليس نهاية العالم، لكنه يعني أن على دول العالم أن تبدأ في تحويل دفة العمل من إطفاء الحرائق إلى منع نشوبها. ومنع نشوب الحريق في داخل حدود دولة ما لا يقيها شرور الحريق المشتعل خارج حدودها، وهذا يعني أن الوقاية من الحرائق عمل جماعي.

عنوان تقرير هذا العام الصادر عن «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» مفزع.. «زمن بلا يقين، حياة بلا استقرار: صياغة مستقبلنا في عالم يتحول» يخبرنا أن مجريات الأحداث وطرق التعامل معها كشفت عجزاً في علاج المشكلات وقصوراً في المواجهة. ولو استمر هذا العجز والقصور، فلا مفر من انتشار أكبر لأشكال الحرمان والفقر بين الناس.

الناس في عام 2022 لا يعانون فقط من عدم اليقين الآخذ في الزيادة بسبب ما يدور حولنا من كوارث طبيعية أغلبها تسبب فيها الإنسان مثل تلك المتعلقة بتغير المناخ، أو أزمات من صنع الإنسان بطريقة مباشرة مثل الحروب والصراعات. الناس يعانون الأمرين أيضاً جراء انتشار الاستقطاب.

التراجعات غير المسبوقة التي سجلها مؤشر التنمية البشرية هذا العام ليس جميعها تعليماً وصحة وغذاءً واقتصاداً فقط، لكن الاستقطاب الآخذ في التنامي فيه سم قاتل أثره مضاعف. التقرير الأممي يعرض ويحلل ما جرى في العامين الماضيين من مآس أثرت على حياة مليارات البشر.

تلاحق أزمتي الوباء وحرب أوكرانيا مع حدوث تحولات اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة، في ظل تغيرات مناخية بالغة الخطورة، جميعها أثر على حياة سكان الكوكب، لكن إشارة التقرير إلى «زيادة هائلة في انتشار الاستقطاب» أمر يستحق التوقف والتدبر، لا سيما في منطقتنا العربية، حيث الاستقطاب متوطن وأحداث العقد الماضي فاقمته وأججته.

بالطبع جزء من الاستقطاب يغذيه النزاع ويقويه الفقر والجوع، ويشد من أزره الظلم والقهر. لكن أيضاً هناك قوى وجهات وأفراد وجماعات «أكل عيشها» الاستقطاب، ورفاهها قائم على استمراره وانتعاشه. وأستعير مما قاله الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس قبل أسابيع أمام «نموذج محاكاة الأمم المتحدة» حين قال إن العالم يجتاحه تيار عارم يبث الريبة والمعلومات المضللة، فسادت بين الناس حالة من الاستقطاب وأصيبت المجتمعات بالشلل.

وحين تصاب المجتمعات بالشلل فهي لا تموت، لكن تغرق في عدم اليقين وانعدام الشعور بالأمن، وهما شديدا الشبع بالموت. تقرير التنمية البشرية يحدثنا عن الخطورة الناجمة عن «حالة عدم اليقين الجديدة» وخطورة انعدام الشعور بالأمن والأمان في مجتمعات عدة، وهو الشعور الذي يداهم المجتمعات ضمن حزمة قوامها الاستقطاب والغوغائية.

منطقتنا العربية للأسف فيها حضور مكثف لكل ما سبق، وهو الحضور الذي تفاقم خلال العقد الماضي في دول عدة في المنطقة. ولا يمكن إغفال المساعدات المادية والمعنوية التي تقدمها الدول غير المنكوبة للمنكوبة، وهذا عظيم. لكن النجاة لم تُكتب لدول دون أخرى من دول المنطقة. وهذا يعيدنا إلى منع نشوب الحرائق من الأصل بدلاً من توجيه كل الجهد لإطفائها.

وإذا كان العامان الماضيان أثبتا أنه في مقدور الناس أن تدخل على حياتها تغيرات جذرية في وقت قصير للتأقلم مع واقع معيشي جديد، وهو واقع الوباء، حيث تم تغيير السلوك اليومي لمليارات البشر من أجل هدف واحد مشترك، ألا وهو الصالح العام، فهذا يعني أن هؤلاء الناس قادرون كذلك على تعديل «السلوك» المؤدي إلى الاستقطاب.

عمليات الاستقطاب المتواترة والمتزايدة في منطقتنا لم ينجم عنها سوى محاولات إقصاء متبادل وتقسيم الشعوب بناءً على تصنيفات سياسية ودينية وثقافية وأيديولوجية واجتماعية في وقت نحن في أمس الحاجة فيه للعمل على صالح مشترك.

الصالح المشترك يتحقق عبر التوافق والحلول الوسط والتفاوض من أجل الوصول لأفضل الحلول للجميع. الإصرار على أن يخرج معلناً انتصاره على جثمان الآخر هو إصرار على انتحار جماعي.

وما نبتغيه هو نجاة جماعية وإعادة بناء أكثر عدلاً قائمة على مجابهة الاستقطاب القاتل ووأده في منبعه.

 

Email