لقاء مستحيل

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتهيأ لي أن جاك لندن، تمكن على الدوام من اختزال معادلات ثقيلة يواجهها الإنسان في وقفته مع نفسه وزمنه وواقعه. هذا رغم أنه هو نفسه عصيّ على الاختزال، ولا يمكن وضعه في جملة شاردة، أو استثماره في جملة واردة، دون خطرِ أن يضل المعنى الطريق، في الرواح أو الغدو.

هذه الفكرة الأولية حول الرجل والكاتب الأمريكي الأعجوبة، لا تمر من دون استذكار أن الأدب الأمريكي، في القصة والرواية على وجه الخصوص، بوعي ولا وعي، حاول أن يذيب «عصارة» جاك لندن الكثيفة المركزة، أدبياً وإنسانياً على مستوى الوعي الشخصي والاجتماعي والسيرة الخاصة، في كؤوس خفيفة وسلسة، تتصالح مع واقعها، أو تتخذ موقفاً نقدياً داخل الوعي السائد.

ومن اللافت أن إذابة «عصارة» جاك لندن أنتجت كتّاباً وأدباً مثّل الولايات المتحدة في العالم طوال قرن كامل ولا يزال.

وبما أن من المشكوك فيه أن تنتج الحالات وليدة اللاوعي وعياً كاملاً؛ لذا، من المفهوم للغاية أن هؤلاء الكتاب لم ينتبهوا إلى أنهم تقمصوا بعض حالات جاك لندن الكاتب بضراوة، كل واحدٍ من جانب مختلف، وجاء أدبهم يستثمر في تفاصيل من أدبه وتوجهاته، وأحياناً أفكاره. بل وبعض ميوله الشخصية، حتى ليبدو الأدب الأمريكي في النصف الأول من القرن العشرين، شروحات مجتزأة تتخصص في أجزاء منفصلة من ظاهرة متماسكة: جاك لندن.

وهذا كله، في ظروف الاستعجال، يدفع المرء للتعويض عن الاستشهاد بجاك لندن، الكاتب صاحب الدفقة الأدبية الكبيرة، والانتماءات الاجتماعية الحادة، نحو آرنست هيمنغواي وسكوت فيتزجيرالد. جيل غيرترود شتاين الضائع. أبناء العبارة التي اختلقها ميكانيكي في ورشة تصليح عربات، وأصبحت مفهوماً يشير إلى مجموعة من المثقفين والمبدعين المتميزين من جيل الحرب، من بينهم إضافة إلى هيمنغواي نفسه سكوت فيتزجيرالد، وجون دوس باسوس، وإيزادورا دانكين، راقصة الباليه الكاليفورنية الشهيرة بسيرتها في الأوساط الثقافية في منتصف القرن العشرين بعد قصة غرامها بالشاعر الروسي سيرغي يسينين، إلى جانب الألماني إريك ماريا ريمارك، الذي لا يزال يروي حكايات الخطوات الليلية إلى اليوم بعد أكثر من ثلاثة عقود على وفاته.

ويدفع المرء لأن «يتوّجد ليلياً»، بين أشجار شعثاء باسقة!

وفي الموازنة ما بين فيتزجيرالد وهيمنغواي، أختار فيتزجيرالد. ليس لأن الأخير لم يلجأ إلى الانتحار، بل لأن هيمنغواي كان أبعد ما يكون عن إدراك سبب وحقيقة ذلك الضغط الهائل الذي يعيشه مبدع وصل إلى حدود يتحرر فيها من «القافية والوزن» من دون أن يقلل ذلك من قبول الذائقة الجامدة له، رغم أنه تناول هذا الضغط في كثير من أعماله، ومنها القصصية على وجه التحديد.

وهذه حكاية أمريكية، يجدر بنا أن ننتبه إلى ما تختلف فيه عنها الحكايات السوفيتية المشابهة، التي ترتبط بأسماء مثل مايكوفسكي ويسينين سالف الذكر وبولغاكوف وباسترناك، وآخرين متأخرين غير معروفين في عالمنا العربي.

وهذه الأسماء، كلها، تمثل سلسلة من حكايات البشر التي تحفر بخنجر حاد في النفس الإنسانية. تلك الحكايات التي كادت تودي بدستويفسكي إلى الجنون، لولا أن الكتابة أنقذته ووضعته في موقعٍ جامعٍ مانع. وهي الحاكيات نفسها، التي كان يمكن أن يتغلب على تأثيرها هيمنغواي، لو منحه القدر الفرصة في لقاء مستحيل مع جاك لندن.

ذهب هيمنغواي وقضى، ولكنْ هنالك الكثيرون ممن يحملون في وجدانهم حكايات البشر، ويرزح وجدانهم تحت تأثيرها، وهم بأمسّ الحاجة إلى ذلك اللقاء المستحيل.

 

Email