شخصيات تحت المجهر

محمد بن سعيد بن غباش.. أول خريج جامعي إماراتي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في ديسمبر 2014، كرم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في احتفال كبير، 43 شخصية ممن كان لهم السبق في مختلف المجالات في دولة الإمارات، إضافة لمجموعة من أبناء الوطن المنجزين في ميادين الابتكارات والاختراعات والمبادرات المتميزة، ومنح سموه كل واحد منهم ميدالية «أوائل الإمارات».

من بين المكرمين، كان فضيلة الشيخ محمد بن سعيد بن غباش. فمن هي هذه الشخصية المكرمة يا ترى؟ وما أسباب تكريمها ضمن أوائل الإمارات؟ بل ما الذي جعل هيئة بريد الإمارات تصدر في أبريل سنة 2004، طابعاً بريدياً من فئتين (50 فلساً و175 فلساً) تخليداً لذكراها؟.

هو العلامة الشيخ محمد بن سعيد بن غباش بن أحمد بن مصبح بن راشد بن صقر بن زايد. أما لجهة لقبه، فقد تلقب بألقاب كثيرة، منها، «الأزهري»، نسبة إلى جامعة الأزهر المصرية، التي درس بها وتخرج فيها، ومنها «المري»، نسبة إلى قبيلة المرر التي ينحدر منها، ومنها الحنبلي، نسبة إلى إمام المذهب الذي اتبعه.

أبصر بن غباش النور سنة 1898 م، أو 1899 م، بمنطقة المعيريض في إمارة رأس الخيمة، لأب ميسور الحال من التجار، ممن ينتمون إلى عشيرة آل بوراجح من آل قيس (بطن من بطون قبيلة بني مرة أو المرر)، فكان الابن الأكبر لوالده، وجاء بعده إخوته الثلاثة، غباش وأحمد وسيف، بحسب الترتيب العمري.

ولأن والده كان ميسوراً، ومحباً للعلم، فقد شجّعه وشجع إخوته على الدراسة، وتلقي العلم النافع في المدارس المتاحة آنذاك، والتي لم تكن تتجاوز الكتاتيب التقليدية (المطوع). وعليه، التحق محمد بن غباش في بداية رحلته الدراسية، بأحد الكتاتيب التي درس فيها القرآن الكريم والحديث وعلوم الدين، ثم درس لمدة خمسة أعوام، بمدرسة الرجباني، التي كان قد أسسها في بدايات القرن العشرين، قاضي رأس الخيمة، وقتذاك، الشيخ أحمد بن حمد الرجباني. وقد ذكر لنا بن غباش في مذكراته، فضل الشيخ الرجباني عليه، وذلك حينما قال إنه درس على يدي هذا الشيخ، القادم من بلاد نجد، كتاب التوحيد وتفسير الطبري، ومتن الرحبية في الفرائض، والمقدمة الآجرومية وغيرها.

بعد ذلك، التحق بالمدرسة التيمية المحمودية، التي ظهرت بالشارقة عام 1907. وقد سـُميت بهذا الاسم، لأن مديرها الشيخ عبد الكريم بن علي البكري، كان يأخذ بأقوال شيخ الإسلام ابن تيمية، في الأحكام والعقائد، غير أن ذلك القدر من التعليم، لم يكن ليشبع طموحات الرجل المتعطش للمعرفة.

لذا، نجده في عام 1917، يشد الرحال إلى قطر، لإكمال تعليمه في المدرسة الأثيرية، التي كانت قد فتحت أبوابها للدارسين بدءاً من سنة 1913، تحت إدارة الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع، الذي استدعي من البحرين لقيادتها، حيث كان يعمل في الأخيرة قاضياً. وفي عام 1921، عاد إلى رأس الخيمة للتتلمذ على يد قاضيها آنذاك، فضيلة الشيخ محمد بن عبد الله الفارسي، فتلقى على يديه دروساً في الفقه والنحو والصرف والبلاغة والتجويد. ومرة أخرى، يشعر الرجل بحاجته للمزيد من العلم والمعرفة، لكنه في هذه المرة، يقرر أن يسافر بعيداً عن الخليج. وهكذا شدّ رحاله سنة 1926 أو نحو ذلك، وهو في العقد الثالث من عمره، إلى مصر، لدراسة العلوم الشرعية في جامع الأزهر الشريف (قبل أن تؤسس في الأزهر كليات جامعية)، وقد سافر إلى هناك بجواز السفر رقم (478 ــ 45)، الصادر من حكومة الهند البريطانية، التي كانت تتولى شؤون دول المنطقة.

من بعد أربع سنوات متواصلة، قضاها الرجل دارساً في رحاب الأزهر، ومتتلمذاً على يد الشيخ أبي طالب الحنبلي المدرس بجامع برقوق، تخرج سنة 1930، ليصبح أول مواطن من أبناء الإمارات، ينال الشهادة الموازية للشهادة الجامعية في العلوم الشرعية، ومن هنا، كانت ريادته وسبب تكريمه ضمن الأوائل من مواطنيه.

عاد بن غباش إلى رأس الخيمة، بعد تخرجه، بتفوق، وتبحّر في علوم الحديث والمصطلح والفقه وأصوله والصرف والنحو وفنون البلاغة والعروض والقوافي، وفن الوضع والبحث والمناظرة، فاشتغل بداية الأمر في سلك القضاء، قاضياً لرأس الخيمة، ومحكماً في القضايا الخلافية، زمن حاكمها الأسبق الشيخ سلطان بن سالم القاسمي (ت: 1948)، واستمر كذلك لغاية سنة 1951، وهي السنة التي قرر فيها السفر إلى السعودية، للعمل أسوة بالكثيرين من مواطنيه في تلك الحقبة.

في السعودية، عمل لمدة عام في وظيفة مدرس بثانوية الأحساء، التي كانت آنذاك المدرسة الثانوية الوحيدة في عموم المنطقة الشرقية من السعودية. بعد ذلك، صدر أمر من الملك عبد العزيز آل سعود، بنقله من الأحساء إلى مدينة الخبر، ليشغل وظيفة «مساعد رئيس محاكم الخبر». ولسبب ما (ربما كان حصوله على عرض وظيفي أفضل)، لم تطل إقامة بن غباش في الخبر، فغادرها في عام 1954 إلى قطر، التي كان قد درس في مدرستها «الأثيرية»، ما بين عامي 1917 و1921، ليصبح مديراً لمعهدها الديني المؤسس حديثاً، ومراقباً في نفس الوقت للكتب الدينية.

وقد ظل ممسكاً بهذين المنصبين مذاك، وحتى وفاته، رحمه الله، في عام 1969، على إثر تعرضه لحادث سير هناك، حيث تم نقله على عجل إلى الهند لتلقي العلاج، لكن إرادة الله كانت أسرع، فتوفي في بلاد الهند، التي كانت في تلك الأزمان مقصد أبناء الخليج للعلاج. وبهذا، لم تكتحل عينا بن غباش بقيام الكيان الاتحادي في بلاده، حيث غادر الدنيا قبل ذلك التاريخ بنحو عامين.

اهتم بن غباش في حياته بالبحث والتأليف والاطلاع والتواصل مع علماء عصره، وتمكن أن يفرغ عصارة تلك الجهود في كتب مطبوعة، وأخرى مخطوطة، وبحوث مكتملة، وأخرى غير مكتملة.

فقد ترك خلفه عدداً من المخطوطات، منها: مخطوطة «فوائد في تاريخ الإمارات»، التي دوّن فيها تاريخ وأنساب بعض القبائل والأسر الإماراتية، ومخطوطة «التعريف بقبيلة الشحوح»، التي تحدث فيها عن نسب الشحوح ومساكنهم وحكامهم ولهجتهم وسحناتهم وغير ذلك، ومخطوطة «فوائد فلكية»، وهي في علم الفلك والنجوم والأجرام السماوية، وبها بعض الجداول الخاصة بالأبراج والمواقيت والشهور والأعوام والسنوات الهجرية والقبطية والنيروزية الهندية، ومخطوطة «تجريد حاشية شرح دليل الطالب»، وهي مخطوطة قام فيها بن غباش، بإضافة زيادات مهمة للحاشية التي كتبها الشيخ عبد الغني بن ياسين اللبدي، على شرح شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد السفاريني، وشرح عبد القادر بن عمر الشيباني التغلبي الدمشقي، تحت عنوان واحد (نيل المآرب شرح دليل الطالب)، علماً بأن «كتاب دليل الطالب»، هو كتاب في الفقه الحنبلي، وضعه الفقيه والمؤرخ والأديب مرعي بن يوسف بن أبي بكر الحنبلي الكرمي، وجذب اهتمام وعناية علماء كثر، ما بين شارح له، أو واضع حاشية عليه.

وقد نشرت صحيفة البيان (12/‏10/‏2005)، موضوعاً في هذا السياق، ورد فيه، إضافة إلى ما ذكرناه هنا، أن الشيخ بن غباش، استعار نسخة من الحاشية التي وضعها اللبدي من ابن الأخير، الشيخ محمود بن عبد الغني «عندما مر بفلسطين في التاسع من شهر شعبان عام 1348، فعمد إليها ونسخها، غير أنه لم يبقها على حالها، إنما أضاف إليها أشياء من عنده، وقد ذكر في مقدمته، منهجه في زياداته وإضافاته».

في عام 1998، تم تحويل إحدى مخطوطات ابن غباش، إلى كتاب مطبوع بعنوان «كتاب الفوائد في تاريخ الإمارات والأوابد»، من تحقيق الباحث العراقي، الدكتور فالح حنظل. وقد احتوى الكتاب على أنساب وتاريخ بعضِ قبائل الإمارات، مثل بني ياس وآل بومهير، الموجودين في إمارة رأس الخيمة، وسبب انتقالهم من موطنهم القديم، وهو بادية الظفرة إلى إمارة الشارقة، علاوة على أنساب وتاريخ قبيلتي آل علي والمرر، كما تطرق للحديث عن شيخ بني حسن من الحبوس، وعن قرية شمَل في رأس الخيمة.

ويعد هذا الكتاب مهماً، كونه أحدَ مصادر التاريخ القبلي والأنساب المحلية، رغم اقتصاره على عدد محدود من القبائل، ناهيك عن أنه مكمل لكتابات بن غباش التاريخية الأخرى، مثل الحواشي والملاحق التي كتبها على مدونة «يوسف بن محمد الشريف»، و«كتابِ الجواهر واللآلي في تاريخ عمان الشمالي» لعبد الله بن صالح المطوع، هذا علماً بأن هناك نشرة أخرى للكتاب، قام بتحقيقها الصديق الأستاذ بلال البدور في عام 2004، وأصدرها من خلال «ندوة الثقافة والعلوم في دبي»، ضمن سلسلة «قمم رائدة»، تحت عنوان «فوائد في تاريخ الإمارات».

Email