إمبراطورية السيدة «إنّ»

ت + ت - الحجم الطبيعي

يشكو «العامل» اللغوي عادات السيدة «إنّ»، إنها تحب الخطابة، وتفرط في استدعاء الإنشاء، وتسرف في التلاعب بالعواطف، ولا تجد في ذلك حرجاً، أو غضاضة. بينما الكون مضطرب، لا يهدأ ولا يستقر، ويحتاج إلى من يهدئ من روعه. لا، بل وتنصب المبتدأ.

وترفع الخبر، وتدخل على الجمل الاسمية، فتنسخها. ولا يهمها، في ذلك، إن كان «المبتدأ» رجلاً راشداً، أم مراهقاً غريراً، أو إن كان «الخبر» مجرد حفل زفاف، أم كارثة طبيعية، أو إن كانت «الجملة الاسمية»، تتعلق باعتراف عاطفي صغير، أم إعلان حرب.

ومن جهتها، لا تأبه السيدة «إنّ»، بما يقوله «العامل» اللغوي، ولا تجد في شكواه ما يثير الاهتمام، أو ما يستحق التأمل، إنها تراه مجرد «عامل» لغوي، وليس بوسعه شيء سوى التشكل وفق ما تراه، وحسب ما تريد.

وهي، في الواقع، ترى أن كل ما يحدث في الدنيا، ومن ذلك الكلام والخطابة، هو نوع من الحرب وألوان الصراع. أما «العامل» اللغوي، نفسه، فلا تجد فيه سوى أداة قتال، لا إرادة لها، ولا يجوز أن تمنح حقوقاً واعية، تؤهلها لقبول أو رفض أي مهمة تناط بها.

وبهذا، كان واضحاً دائماً، أن لا سبيل للتوفيق بين «العامل» اللغوي والسيدة «إنّ». وأنّ لا فرصة لإنهاء أو إطفاء التحفظات القائمة بينهما، التي يمكن أن تنفجر، في لحظة، فتثير بعض قليل من لغط وبلبلة، قبل أن تنطفئ مجدداً. والأمر، في كل الأحوال، لم يكن مقلقاً أبداً للسيدة «إنّ».

وبقي كذلك إلى أن وقفت في يوم تفعل ما دأبت على فعله، ويشكوها بسببه «العامل» اللغوي، اندفعت في الخطابة، وأفرطت في استدعاء الإنشاء، وأسرفت في التلاعب بالعواطف، دون أن تجد في ذلك حرجاً، أو غضاضة.

لم تمضِ طويلاً في ذلك، حتى لاحظت، لهولها، أنّ «العامل» اللغوي قد تلاعب بـ «حبالها» الصوتية، بحيث راح الكلام يخرج من فمها على خلاف ما تريد، وعلى غير ما تنوي.

ولم تجد حيلة مع هذه الحال سوى أن تصمت، لتوقف سيل الكلمات التي انهمرت تفضي بما لا تريد قوله، ولا توافق عليه. كان ذلك انتصاراً لـ «العامل» اللغوي، وإعادة اعتبار لحقه في أن يضبط القول، ويزن الكلام.

ما يهم العالم من هذه الدراما الشخصية، التي جمعت بين «العامل» اللغوي والسيدة «إنّ»، هو أن الأمور بقيت، رغم ذلك، على حالها، ولم تتغير أبداً، فالسيدة «إنّ» لديها أخوات لا يختلفن عنها في السلوك والأثر، وكلما اضطرت واحدة منهن إلى الصمت، تنطعت للخطابة أخرى.

وما يهم، أيضاً، أن العالم مليء بصنوف الخطابة، وضروب الإنشاء، وأساليب التلاعب بالعواطف، وبمن يستمرؤون استخدام هذه كلها في غير مقامها. وهو، كذلك، مليء بالأنفس التي تسمع وتتأثر، وتقبل وتصدق.

والأسوأ من ذلك، هو أن الصمت، ولا شيء سواه، هو البديل الحقيقي الوحيد، الباقي، لأي راشد لا يجد بما تقول السيدة «إنّ»، أو أي من أخواتها، منطقاً مقبولاً. وبرغم كل ما فعله، أو قد يفعله، «العامل» اللغوي، فإنّ العالم سيبقى مليئاً بصنوف الخطابة، وضروب الإنشاء، وأساليب التلاعب بالعواطف، والقليل القليل من الكلام الذي يتوخى الحقائق.

على الأقل، طالما بقيت السيدة «إنّ» تحتل إمبراطورية الكلام.

Email