تحوّلات عالمية

ت + ت - الحجم الطبيعي

المكالمة التي أجراها الرئيس الصيني، شي جينبينغ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مفصلية بكل المقاييس؛ إنها تأخذ موقفاً واضحاً، لا مواربة فيه، إلى جانب روسيا، وتعلن عن تحولات لا تتأتى، إلا بخوض حرب كبرى.

وهي، ابتداءً، تحمل رداً ثابتاً على ضغوط الولايات المتحدة على الصين، وتحذيراتها الوعيدية لبكين، بعدم التورط بـ«الوقوف في الجانب الخاطئ من التاريخ». والقصد بـ«الجانب الخاطئ من التاريخ» هو الوقوف مع روسيا، والتعامل معها.

وهنا، يقول الصينيون سنقف!

وفيها، ثانياً، رد صيني ثابت آخر على الأمريكيين، يقول إننا لم نعد في ظرف نكتفي فيه بموقف أمريكي مبني على «الغموض الاستراتيجي»، بما يتعلق بموضوع «تايوان». لا بل لم نعد مهتمين بأي موقف أمريكي في هذا الخصوص، ولا يعنينا ما تقولون، ولا أين تقفون، ولا ما تستثمرون في مواقفكم.

في الواقع، توضح المكالمة أن التصريحات السياسية الأمريكية لم تعد عملة مقبولة في البنوك الصينية.

وهذا لا يفرح الروس والصينيين، فقط. بل يثير ارتياح الكثيرين ممن عاشوا يحترمون النفوذ الأمريكي، دون أن يلحظوا أي مردود إيجابي لهذا الاحترام. وهذا يفرح كل أولئك الذين لاحظوا منذ وقت أن «الذكاء» والعقل «الاستراتيجي» لم يعودا عاملين أو مؤثرين في سياسة واشنطن، وأن «النفوذ» و«الهيمنة» الأمريكيين باتاً جامدين وأثقل من أن يمنحا الولايات المتحدة القدرة على الاحتفاظ بمرونتها السياسية والتكيف مع مصالح الشركاء في العالم.

وبالمقابل، هناك في العالم دول كثيرة لا تشعر بحجمها إلا بالتعامل مع روسيا، وتبدي ارتياحها إزاء التزام الأخيرة بمواثيقها، وقدرتها على التكيف مع مصالح الشركاء.

وهناك في العالم دول ترتاح للتعامل مع الاقتصاد الصيني العملاق، الذي يعاملها معاملة الند للند. ولا يحتاج، في معادلاته، إلى علاقات التبعية. بل إلى الشراكة المبنية على المصلحة المشتركة..

وفي السياق نفسه، جاءت كلمة الرئيس الروسي، في منصة سانت بطرسبورغ، لتبني على المكالمة الصينية، فأكدت أن:

• «العالم لم يعد كما كان من قبل»، و«أحادية القطب انتهت إلى غير رجعة». وأن «روسيا تدخل نظاماً عالمياً جديداً بوصفها دولة قوية وحديثة». أما «الاتحاد الأوروبي فيخضع للإملاءات الخارجية»، و«فقد سيادته بالكامل». و«من الواضح أن قواعد النظام العالمي الجديد ستضعها الدول القوية وذات السيادة».

• «بعض العملات العالمية تنتحر»، و«نمو التضخم في بعض دول منطقة اليورو تجاوز مستوى 20%»، و«المعروض النقدي نما في الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين بنسبة 38% وفي الاتحاد الأوروبي بنسبة 20%».

• «الطموحات والأوهام الجيوسياسية، التي عفا عليها الزمن، قوضت الثقة في العملات العالمية»، و«في السنوات المقبلة سيطلق العالم عملية تحويل الاحتياطيات من العملات التي فقدت قيمتها إلى قيم مادية حقيقية».

• «العالم وصل إلى هذا الوضع نتيجة للأنشطة التي قامت بها الدول الصناعية السبع الكبرى على مستوى الاقتصاد والسياسة»، و«جوهر المشكلة يكمن في السياسات الاقتصادية الغربية في الفترة الأخيرة».

• و«من المتوقع تغير السلطة في أوروبا. نتوقع تفاقم مشكلات العدالة الاجتماعية وانقسام المجتمع بسبب أخطاء الاقتصاد». و«الوضع الراهن في أوروبا سيؤدي إلى تصاعد الراديكالية، وفي المستقبل إلى تغيير النخب الحاكمة».

إنها جملة من النبوءات والأحكام المثيرة للاهتمام.

في الواقع، كان التفوق العلمي والتكنولوجي والقدرة الصناعية والاقتصاد «صاحب البدع الافتراضية والقطاعات الوهمية»، التي دوخت البشرية، يعطي فكرة أن الأمريكيين، بغض النظر عن عددهم، وقدرتهم، هم الأمة الأعظم، والأكبر، على هذه الكرة الأرضية.

واليوم، الصين ومنجزاتها ونجاحاتها واتساع اقتصادها، وتحرره من القيود الأيديولوجية الضيقة، المحلية والأمريكية، وقدرته على إنتاج موديلات جديدة من الأعمال وطرائق الإنتاج ونماذج التبادل التجاري. إلى جانب فضائل العقول الهندية، وإسهاماتها الكبيرة في الطفرة التقنية والتكنولوجية، تؤكد أن الأمريكيين، حتى في معيار التفوق العلمي والتكنولوجي والقدرة الصناعية والاقتصاد، لم يعودوا شيئاً متفرداً، أو حالة خاصة..

أليس في هذا أساس للتحول في مفهوم القوة العظمى، والنظام الدولي!؟

هذا شيء أعلنته، بوضوح المكالمة التي أجراها الرئيس الصيني، شي جينبينغ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وهذا كذلك، ما كشفت تفاصيله كلمة الرئيس الروسي، في منصة سانت بطرسبورغ، التي أعلنت عن تحولات مفصلية لا تتأتى، إلا بخوض حرب كبرى.

وكلاهما يقول: إن العالم يمضي قدماً، بعيداً عن الزمن الأمريكي، تاركاً الجزع الأوروبي خلفه!

Email