المتسول والقاتل المحترف

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مقهى مكتظ بالسياسيين، انزوى عدد من الأدباء في ركن منعزل، وراحوا يتهامسون. وبعد دقائق دخل فيودر ميخائيلوفيتش دستويفسكي. نظر في الأرجاء، ثم اختار مائدة تنتصب وسط موائد السياسيين. جلس إليها، ثم أخرج من حقيبته شطيرة منزلية.

قضمها ببطء ريثما انتبه إليه النادل، وجاء ليقف جوار كتفه الأيسر. طلب منه فيودر ميخائيلوفيتش أن يحضر طبقاً فارغاً، وأن يعد له شرابه المعتاد. وعند عبارة «الشراب المعتاد» ارتبك النادل، فانتبه إليه فيودر ميخائيلوفيتش، وفطن إلى أنه يرتاد المقهى للمرة الأولى، فقال إنه سيتريث بطلب الشراب إلى حين، وراح يفكر بالسبب الذي جعله يظن أنه دخل مقهاه المعتاد.

أتى فيودر ميخائيلوفيتش على شطيرته، ثم وضب على الطبق شرائح من اللحم المقدد والجبن المملح، التي أحضرها معه من البيت. ثم عاد يستعرض المكان من جديد، فرأى أنه في غير مكانه، ولكن تملكه شعور القارئ الذي يمسك بكتاب جديد، فطلب شراباً، وراح يصغي في ذاكرته إلى لحن قديم يتردد مع وقع خطوات وأصوات بشرية وضحكات عابثة في ليلة عيد أبيض مليء بندف الثلج.

لاحظ فيودور ميخائيلوفيتش، بينما هو يحتسي شرابه بأناة، أن يوسف فيساريونوفيتش ستالين ينفث دخان غليونه ببطء، في لوحة على الجدار، بينما هو يلعب الورق مع بطرس الأكبر، والقيصر إيفان الرهيب يخدمهما بتواضع على المائدة.

كان ثمة شيء، ما، غامض في يوسف فيساريونوفيتش، كما بدا في اللوحة؛ ليس لأنَّ اللوحة تشبه في أسلوبها ريشة فاسيلي بيروف صاحب أشهر بورتريه خلده هو.. فيودور ميخائيلوفيتش.

لا، كان شيئاً في يوسف فيساريونوفيتش، نفسه!

لم يعرف فيودور ميخائيلوفيتش ما هو ذلك الشيء على وجه التحديد. ولكنه أدرك أن ألكسندر سولجنيتسين، الذي كان من الممكن أن ينوب عنه في زمن ستالين المتأخر، فشل في إدراك هذا الشيء بالذات. وأن سولجنيتسين الذي حاول أن يستدرك أمره في أواخر عمره، لم يصل هناك.. إلى تلك النقطة التي تستجلي الغموض في اللوحة المليئة بالإيحاءات الروسية المبهمة.

في الأثناء، راح نادل النضد يقلب بين القنوات التلفزيونية، فأدرك فيودور ميخائيلوفيتش إن عجلة الزمن دارت إلى وقت متقدم على نحو مذهل، وأن أوروبا لم تعد منتجعاً للطبقة الوسطى الروسية، وأضحت معسكراً للجيش الأمريكي.

وهنا، انتابه فضول تجاه المذكرات التي كتبتها ابنته ليوبوف فيودروفنا، المولودة في دريسدن الألمانية والمتوفاة في بولسانو الإيطالية، على أمل أن يفهم لماذا يرى الأوروبيون في كل حكم روسي ديكتاتورية ما.

كانت هذه دائرة من الأفكار المزعجة التي لم يكن يحب فيودور ميخائيلوفيتش أن يواجهها. ذلك شيء يعيده إلى الانخراط العميق بالسياسة، في وقت ارتاح فيه إلى تأمل الأعماق الإنسانية. الأعماق الإنسانية التي دفعته إلى وضع ما تيسر في يد المتسول الذي مرّ بمائدته للتو.

المتسول ضخم الجثة، صاحب اللحية المسترسلة مثل عبارة في درس اللغة، تسعى لإعطاء أمثلة على كل الحالات النحوية. المتسول الذي يشبه فلاحاً روسياً معدماً لم ينل حظه من الحياة ولا العدالة، لدرجة أنه يشبه ليف نيكولايفيتش تولستوي.

- يا للهول، ألم يكن هذا ليف نيكولايفيتش نفسه..!؟

هتف فيودور ميخائيلوفيتش، وكرر هتافه مرة بعد مرة. ولكن أحداً من السياسيين المحيطين به لم يعبأ بتساؤله، بينما لم يسمعه أحد من الأدباء المنزوين حول مائدة منعزلة.

لم يعرف فيودور ميخائيلوفيتش، إلى اليوم، لِـمَ كان عليه أن يواصل التساؤل طوال الوقت حول هوية المتسول الذي مر بمائدته، رغم علمه اليقيني بأنه كان فعلاً ليف نيكولايفيتش تولستوي، نفسه.

ولكني أعرف تماماً لماذا مرّ فيودور ميخائيلوفيتش بتجربة النكران هذه..!

إنه ببساطة لو أقرّ بأن ذلك المتسول كان ليف نيكولايفيتش تولستوي، لوجب عليه أن يقر أنه لم يكن، في الواقع، فيودور ميخائيلوفيتش دستويفسكي الكاتب، ولكن فيودور دستويفسكي القاتل المحترف، وهذا سيضطره للتفكير بمهمته التي قادته إلى ذلك المقهى الطارئ، وأن يتساءل لِـمَ جاء إليه:

أليغتال سياسياً أم ليقتل أديباً، ومن على وجه التحديد!؟

Email