هذه ليست مرثية إعلامية لرجل دولة رحل عن دنيانا. وهي ليست مجاملة من كاتبة مصرية لرئيس دولة صديقة أو شقيقة. تبادل التعازي والدعاء بالصبر وتمني الرحمة أمور نعرفها جميعاً، سواء على سبيل المجاملة أو من باب المحبة والمودة لمن سبقونا في الرحيل والتخفيف عن أسرهم وأبنائهم. لكنها محاولة لنقل مشاعر يكنها ملايين المصريين والمصريات للمغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه.
الحزن الشعبي يختلف كل الاختلاف عن إعلان الحداد وتنكيس الأعلام وتعليق الشارات السوداء. الحزن الشعبي غير منصوص عليه في كتب البروتوكول ومراجعها. الحزن الشعبي منبعه القلوب. وحين يكون الحزن الشعبي ممتداً إلى شعوب أخرى غير شعب الفقيد، فهذا يعني الكثير.
كثيرون يعلمون أن المصريين حتى سنوات قليلة مضت لا يميلون إلى تسييس الحياة وتبني التوجهات الحزبية والانحياز لأيديولوجيات دون غيرها. صحيح أن أحداث عام 2011 دفعتهم نحو مواقف لم تكن شائعة من قبل، غيرةً على الوطن، إلا أن حكمهم على الكثير من الأمور، بما فيها السياسة، يظل منبعه القلب مدفوعاً أحياناً بإعمال العقل، وأحياناً أخرى تسليماً بحدس فطري قلما يخطئ.
لذلك أخطأ كثيراً من حاولوا خلال السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ عام 2011، زرع الفتنة أو بث الفرقة بين الشعوب العربية. وكلما استشعر المصريون ببوادر مثل هذه المحاولات الخبيثة، ذاعت وانتشرت مقولة مؤسس دولة الإمارات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه: «إن نهضة مصر نهضة للعرب كلهم، أوصيت أبنائي أن يكونوا دائماً إلى جانب مصر، فهذا هو الطريق لتحقيق العزة للعرب كلهم، إن مصر بالنسبة للعرب هي القلب، وإذا توقّف القلب فلن تُكتب للعرب الحياة».
ليست مبالغة حين أقول إن أبسط المصريين ومن لم تطأ أقدامهم أرض الإمارات طيلة حياتهم يحفظون هذه المقولة. يعرفون ما ينبغي معرفته، لذلك تجد عبارة: «الشيخ زايد أوصى أبناءه بمصر». يقولون العبارة وتنبع منها مشاعر اطمئنان وسكينة. يعرفون أن السياسة كثيراً ما تفرق الأخوة، منهم من يعود إلى قواعد الأخوة، ومنهم من لا يعود، ومنهم من تبقى عودته مقتصرة على البروتوكولات لكن يبقى الجفاء.
أما الإمارات فالوضع مختلف. قد تبدو هذه الكلمات عاطفية لوهلة. لكنها حقيقة مشاعر المصريين.
مشاعر المصريين التي نضحت حزناً على رحيل المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، تقول الكثير. يعزون أنفسهم، ويعتبرون المصاب مصابهم. يتداولون صور الراحل وهو يقف على الجبهة وسط الضباط والجنود المصريين في أكتوبر عام 1973. صورة المغفور له الشيخ خليفة بن زايد، طيب الله ثراه، على الجبهة المصرية في أثناء الحرب وسط الجنود بالزي العسكري تقول الكثير، ومسيرة عطائه تقول أكثر.
وحين وجدت مصر نفسها أمام معركة حياة أو موت في العام 2013، وذلك بعد عام أسود من حكم الإخوان، وبينما العديد من دول العالم تدعم الجماعة دعماً غير مسبوق تجاوزاً على إرادة المصريين وعكس رغبتهم التي نزلوا من أجلها الشوارع والميادين بالملايين، كانت الإمارات أول دولة تدعم استقرار مصر، واحترمت كلمة المصريين في تقرير مستقبلهم بشكل واضح وصريح وغير مشروط.
وقف سمو الشيخ عبد الله بن زايد، وزير الخارجية والتعاون الدولي، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 سبتمبر 2013 مطالباً بتقديم الدعم للحكومة المصرية وللاقتصاد المصري بشكل يعزز مسيرتها نحو التقدم والازدهار. وكان سمو الشيخ عبد الله بن زايد، أول وزير عربي يزور مصر عقب قرار الإرادة الشعبية في 30 يونيو.
هذه المواقف التي صاحبتها سلسلة من إجراءات الدعم الاقتصادي لمصر سواء في صورة مساعدات أو اتفاقات اقتصادية في وقت حالك من تاريخ مصر الحديث يتذكرها المصريون في كل حديث أو إشارة لما جرى في مصر والمنطقة العربية منذ عام 2011.
ولأن المصريين يعتبرون العروبة مبدأ وقيمة وغاية، رغم الرياح التي أتت بما لا تشتهيه العروبة خلال السنوات الأخيرة، فإن مواقف ومسيرة عطاء المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، حاضرة في الذهن الجمعي. عطاؤه العربي الذي لم ينقطع درس وعبرة وحكمة تحتذى.
رحل الشيخ خليفة بن زايد، لكن أعماله وسيرته ومسيرته وعطاءه باقية. وحفاظه على عهده مع والده المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه بأن يبقى وأخوته (حفظهم الله) إلى جانب مصر، محفور في قلوب وعقول المصريين. المصريون يعتبرون الفقدان فقدانهم، والعزيز الراحل عزيزهم، والحزن حزنهم. لكنها سنة الحياة. والراحلون تبقى أعمالهم ومحبتهم ومكانتهم وإنجازاتهم حية ترزق وشاهد عيان على حياتهم.
رحم الله الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان. نعزي أنفسنا.