التطفل على ثقافة أخرى

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد لا يعرف كثيرون أن السردية التاريخية، التي قدمها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حول العلاقات الروسية الأوكرانية، قبل بدء العملية العسكرية بوقت كافٍ، ليست علمية ودقيقة فقط.


 وإنما هي السردية التي يجمع على صحتها المؤرخون الروس والأوكرانيون والبيلوروسيون.


 ومن نقل عنهم مهتماً بتاريخ هذه الشعوب، جميعاً، وعلى حد سواء.


هذه الحقيقة، التي جاءت في مقال طويل بعنوان «حول الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين»، يمكن أن يشعر بها المطلعون على الأدب الروسي، بمختلف كتابه ومؤلفيه، وبغض النظر عن منشأهم، ومختلف المراحل التي عاشوا فيها، سواء أكانوا روساً أو أوكرانيين أو بيلوروسيين. ويمكن في هذا السياق إيراد نصوص مباشرة تؤكد ذلك من أدب ومدونات أدباء «العصر الذهبي» في الثقافة الروسية. وهو ما يدعى، كذلك، بـ«عصر بوشكين»، الذي امتد على القرن الـ19 ومنح العالم، إلى جانب بوشكين، ليرمونتوف وتيوتشيف وجوكوفسكي وغوغول ونيكراسوف وتولستوي ودستويفسكي.


والسؤال هنا، لماذا تم فجأة رفض كل تلك المسلمات التاريخية، التي لو «شطبناها» من صفحات الكتب، لما بقي تاريخ، لا لروسيا، ولا لأوكرانيا، ولا لبيلوروسيا، تاريخ يعتد به، أو يمكنه شرح وجود هذه الشعوب، أو توضيح مسار تطورها الحضاري المشترك الطويل، أو تفسير تكونها وتبلورها الثقافي المتشابه والمتطابق..؟


وبكلمات أخرى، لماذا يتواصل اليوم رفض هذه السردية، التي كانت (ولا تزال) تدرس في أعرق الجامعات العالمية، ومنها الغربية، ولا يختلف عليها المجتمع العلمي على امتداده في هذا العالم..؟
الجواب ببساطة، لأن ما جرى في وسائل الإعلام، وعلى شاشات التلفزة، لم يكن درساً في التاريخ، ولا أطروحة علمية. ولكنه منازلة سياسية، أهم أدواتها الدعاية، والافتراضات الديموغوجية، والأفكار التلفيقية، و.. التطفل العدواني على ثقافة أخرى!


في واحدة من المأثورات الكثيرة المشهورة عنه، يقول رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، ونستون تشرتشيل «نحن مستعدون للتنازل عن أي شيء، إلا تراث شكسبير»؛ ومما لا شك فيه إن محاولة أي طرف العبث بتراث شكسبير، بتأويله أو إنكاره أو نسبته إلى ثقافة أخرى، يمثل تطفلاً عدوانياً على تاريخ تشكل ووجود الأمة البريطانية، المادي والروحي.


وبالمثل، فإن محاولات نسف تاريخ الأمة السلافية، الذي تعترف به شعوب دولها الثلاث الرئيسة، لا يمثل محاولة لشطب روسيا من التاريخ فقط، ولا مجرد مسعى عدوانياً لضرب علاقتها بالمكونات الشقيقة في الأمة السلافية، وإدانة حاضرها، فقط. بل هو ينسف من حيث الأساس القاعدة التاريخية المتينة التي نشأ على أساسها استقلال أوكرانيا كدولة، ويعيدها إلى مربع الأطماع الأوروبية القديمة، التي كانت (وربما لا تزال) ترى فيها غنيمة من أرض وثروات، وميداناً لتحجيم روسيا، التي تشكل نداً حقيقياً للقوى الغربية.


والقاعدة هنا واضحة وبسيطة للغاية: أوكرانيا تعيش قطيعة مع تاريخها، ومنفصلة عنه، ومنسلخة عن ثقافتها، هي هدف سهل بلا شك!


وبالطبع، ليس غريباً، مهما كان ذلك مستهجناً، أن تلجأ الأطراف المتورطة بنزاع سياسي أو عسكري، في خضم حملاتها الدعائية، إلى التعدي على الحقائق، وترويج الأكاذيب. بل هذا في الواقع أمر معتاد، حدث ويحدث في صور متنوعة ومختلفة.


ولكن هذه المرة، في الحالة الروسية الأوكرانية، لا يتعلق الأمر بشيطنة رئيس دولة ما، أو تسويد صورة عهده، أو وصم نظامه بأسوأ ما عرفت الإنسانية من مساوئ. بل تلجأ الدعاية الغربية، هنا، إلى التدليس على التاريخ بأكمله، وتزوير أحداثه ووقائعه نفسها، ومحاولة تشويه الوعي العام والسيطرة عليه، من خلال السعي إلى ضربه في مسلماته الثقافية الراسخة والثابتة، وتكبيله بسردية أخرى مستحدثة، لا علاقة لها بالواقع، ولا تستند إلى الحقائق.
هذا ما يعد، فعلاً، تطفلاً عدوانياً على ثقافة أخرى!

Email