شارع باتجاه واحد

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتزايد الحديث، اليوم، عن نظام عالمي متعدد الأقطاب. وفي الوقت نفسه، تتعاظم على أرض الواقع الحاجة الموضوعية إلى مثل هذا النظام، الذي يبدو الغائب الأكبر عن مشهد مليء بالفوضى والاضطراب.

ليس فقط لأن نظام التعددية القطبية يتيح تمثيلاً أكبر للبشرية ومكوناتها المتعددة ومتنوعة المصالح والثقافات، ولكن لكونه يمثل ضمانة حقيقية تبعد أخطار انفراد أي قوة دولية بقيادة العالم، وحكمه، وتوجيهه، وما يمكن أن ينجم عن ذلك من فاشيات جديدة.

وهنا، نتذكر أن عالمنا عرف قبل اليوم صيغة «عالم ثنائي القطب»، وخبر محاسنه في خلق توازن دولي، وسيئاته التي تجسدت في استقطاب شديد عالي التوتر، مكلف لقطبيه القائدين، ويمثل ضغطاً على الملتحقين بطرفيه. كما كان متعباً لمن هم خارجه، يحرصون على عدم الانحياز إلى أي من معسكريه.

وبهذا، فإن عالماً متعدد الأقطاب يمكن أن يمثل تلك الصيغة الجديدة، التي تمثل بديلاً معقولاً لأحادية وثنائية القطب، وتفتح المجال أمام تفاعل إنساني أكثر عقلانية وموضوعية ونزاهة.

ولكن هذا ليس كافياً بعد!

هناك، إضافة إلى ذلك، حاجة موضوعية إلى إعادة قراءة خريطة التأثير العالمية، وإعادة تقييم الحجوم والأوزان في الساحة الدولية؛ فمفهوم «الدول الكبرى» أو «القوى العظمى»، التي تحتكر حقوقاً حصرية في إدارة العالم والتقرير بشأن قضايا دوله وشعوبه، لم يعد يستجيب لحاجات الإنسانية في عالم متوازن ومستقر، لأنه يُغفِل على وجه التحديد وجود قوى أخرى وازنة.

هناك، مثلاً، قوى إقليمية، تؤدي دوراً كبيراً وحاسماً في السياسة الدولية، لا يمكن تجاهل تأثيرها، وقيمة دورها، ومصالحها، ورأيها. كما أن العالم يحتضن، إلى جانب «القوى العظمى»، «قوى اقتصادية عظمى» تضطلع بدور بالغ التأثير في السياسة والاقتصاد الدوليين، أو تمتلك ثروات طبيعية تحتاجها وتفيد منها كل البشرية، وتضخ دماء الحياة في أوردة الاقتصاد العالمي. وإلى جانب هذه وتلك، هناك كتلة من «دول محايدة»، يحق لها من موقع حيادها أن يكون لها صوتها المسموع. كما أن هناك تجمعات إقليمية وشبه قارية تقوم على مشتركات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، مثل الاتحاد الأوروبي والأفريقي والجامعة العربية.

وفي السياق نفسه، هناك منظمات دولية تعنى بجوانب حيوية مختلفة، بالتجارة والعمل والزراعة والطاقة والتنمية والإغاثة والثقافة والعلوم وغير ذلك. وهي مفوضة من دول العالم كافة بدورها الذي تقوم به، ولا معنى لحرمانها من المشاركة في منصة النقاش العالمي بشأن الشؤون الدولية، طالما هي «مفوضة» وتمثل طرفاً يملك معرفة اختصاصية في مجالاتها.

وفي جانب موازٍ، تبدو فكرة البرلمان الأوروبي، موحية وملهمة، يمكنها أن تضفي على أي نظام دولي جديد لمسة تمثيلية، ضرورية.

بلى، إن العالم اليوم، بتوجهاته ومصالحه ودوره وتأثيره، أكبر من أن يكون قراره بيد «القوى العظمى» وسياسيي العالم، حصراً وفقط!

في الحقيقة، إذا كنا نريد تثبيت الاستقرار في عالمنا، وصيانة الأمن في مجتمعنا الدولي، وتوجيه الإمكانات والجهود نحو الازدهار الإنساني، فإنه لا بديل عن العقلانية وتوظيف الخبرة الإنسانية، التي صنعتها عشرات الحروب المدمرة، والنزاعات المسلحة، والأزمات السياسية والاقتصادية.

وهذا يصب في ضرورة تخلي «القوى العظمى» عن احتكار القرار العالمي، ومحاولة إرغام المجتمع الدولي على الاصطفافات التحيزية، التي تراعي حصراً المصالح الضيقة، التي تمثل دولاً تعيش أوهام القوة المطلقة، والهيمنة الأبدية، وتغتصب الحق في الوصاية على الحضارة الإنسانية، وقراراتها المستقبلية.

أي، تلك الدول التي لا ترى في العالم إلا شارعاً باتجاه واحد!

إن مثل هذا الشارع، الذي يسير باتجاه واحد، لا يؤدي في أفضل الأحوال إلا إلى حرب باردة جديدة، ونزاعات وبؤر توتر إقليمية، وأزمات واضطرابات اجتماعية. كما ليس من المستبعد أن يضع العالم أمام شبح الخيارات النووية، واحتمالات الدمار الشامل.

من هذا المنظور، يبدو واضحاً أن من يتمسك بهذه الصيغة في إدارة العالم، إنما هو طرف يعيش حالة إنكار، منفصل عن الواقع، ويعجز عن الاعتراف بحتمية وأهمية الاستجابة للحاجات الموضوعية، التي يفرضها الوضع الدولي اليوم.

ومثل هذا الطرف لا يمكنه أن يكون شريكاً في التنمية، أو الازدهار العالمي، أو في حفظ وصون الأمن والاستقرار الدوليين. ليس لشيء، بل فقط لأن أيدولوجيته الحاكمة قائمة على الهيمنة والنفوذ، والانفراد بالقيادة العالمية.

إنها لحظة فاصلة، إما أن يتحول العالم بعدها إلى التشاركية، وإما أن يغرق في مستنقعات الاستبدادية في السياسة والاقتصاد الدوليين.

Email