الغرب وأوكرانيا.. تضامن على حد السيف

ت + ت - الحجم الطبيعي

في غمرة انحيازهم للنخب الفكرية والسياسية والقوى الشعبية الأوكرانية الموالية لهم في كييف، لم يدع الحلفاء الغربيون عقوبة يرونها مؤلمة بحق الطرف الروسي، إلا استخدموها..

والهدف هو محاولة ليّ ذراع موسكو وتغريمها أثماناً تجبرها على لجم التوسل بآلتها الحربية لتحقيق سياسات ومصالح إقليمية قارية، ثم عالمية، انطلاقاً من المثل الأوكراني. غير أن هذه الغضبة، وعلى غير ما يوحي ظاهرها، وبخاصة لجهة التصاعد السريع في فرض العقوبات والتدرج من عقوبة شديدة إلى أخرى أشد، لم تتصف بالعشوائية أو بالرعونة الانفعالية، وإنما نشأت عن منظور استراتيجي وعقلية انتقائية ومعرفة واعية دقيقة بمواضع الإقدام والإحجام.

القصد أن العواصم الغربية هبت بلا إبطاء للاستجابة لنداءات كييف الاستعطافية، المقترنة بمطالب العون والإغاثة وممارسة ضغوط قوية ضد الخصم الروسي. وقد غطت هذه الهبة التضامنية كل ما يمكن أن يخطر في البال من مجالات مؤثرة في حركة حياة هذا الخصم العنيد..

مجالات ما انفك الرئيس فولوديمير زيلينسكي يحض الأنصار الدوليين على غشيانها وتوظيفها لكف الأيدي الروسية عن بلاده، بشكل يومي تقريباً. وعملياً فتح هؤلاء كل أبوابهم أمام الرجل وبطانته، وسمحوا لهم بمخاطبة مؤسساتهم الفاعلة، وبخاصة البرلمانية منها، مباشرة بالصوت والصورة. لكن كل تعبيرات المودة والدعم والتأييد هذه استثنت التعامل مع مطلب أساسي يمثل بيت القصيد عند كييف، جوهره قبول عضويتها عاجلاً بالاتحاد الأوروبي أو بالناتو أو بكليهما معاً.

التزمت الأطر الأوروبية والأطلسية بمواقف أظهرت أن لإسناد أوكرانيا سقفاً عالياً حقاً، لكن الأمر لا يتعلق بشيكات على بياض، ولا بلغ عندهم حد الانسياق بعيون مغمضة وراء كل ما تطلبه كييف. وفي مداخلاتهم الداعمة ومتابعاتهم وتغطياتهم وتعليقاتهم السياسية والإعلامية، التفصيلية والغزيرة جداً، حول شؤون الحرب، أظهر المسؤولون الغربيون وعياً لمحاذير الإقدام على أي خطوات نوعية فارقة، على الصعد العسكرية بالذات، من شأنها إثارة ردود روسية حربية قاسية أو قياسية أو مجهولة الأبعاد..

تجلت بعض معالم هذا الوعي في: الرفض الصريح لإرسال أي قوات مسلحة إلى ميادين الاشتباك أو لبسط مناطق حظر جوي فوق أوكرانيا، والتعبير الأكثر صراحة عن عدم استحسان هرولة أوكرانيا نحو الانضمام للناتو في هذه الأجواء الفوارة، والحديث عن ضرورة مرور وقت كاف قبل استقبالها عضواً في الاتحاد الأوروبي، هذا علاوة على تجديد فعالية خطوط الاتصال الساخنة مع موسكو، التي أثبتت مطولاً قدرتها على معالجة أي احتمال للاشتباك المفاجئ الخطير.

غاية القول بهذا الصدد أن منظومة الغرب بدت حريصة على تجنب كل ما من شأنه، الوقوع في دائرة القتال المباشر مع الجانب الروسي، أو استفزازه لاتخاذ قرارات تستدرجه وإياهم إلى هذه الدائرة ولو عن طريق الخطأ. وبلغ الحذر بالولايات المتحدة، زعيمة هذه المنظومة، حد تأجيل بعض المناورات الأطلسية الحربية، وإجراء أحد الاختبارات الصاروخية بشكل سري ودون ضجة، لئلا يفهم تصرفها على نحو سلبي في الأروقة الروسية المعنية. هذه التحركات، التي تشبه السير على حبل مشدود في مناخ متوتر محموم، ربما ساهمت في منع توسع الحرب واقتصارها على الداخل الأوكراني..

وهو سلوك يحسب لصناع القرار في المعسكر الغربي، الذين يبدو أنهم عزفوا عن فكرة المغامرة بإجراءات عسكرية ضد طرف لم يستبعد التذكير، ولعله التهديد، بقدراته النووية، لصالح شن حرب عقوبات واسعة عليه، تملأ راهناً الآفاق الدولية.

وهذا لا يحول دون الاعتقاد بأن هذه المقاربة أشاعت شيئاً كثيراً من الإحباط لدى الرئيس الأوكراني ورفاقه، ولعلها ساهمت في إبدائهم مرونة تفاوضية ملحوظة تجاه بعض أبرز نقاط الأجندة الروسية، مثل البنود المتعلقة بحياد دولتهم، والتخلي عن ترديد أشواق الانضمام للناتو.

على المقلب الآخر، لنا أن نلاحظ كيف أن موسكو، ورغم استيائها وغضبها اللامحدودين من تنمر الغرب إزائها، وحملته العدائية التاريخية ضد مصالحها قارياً وعالمياً، لم تستخدم بشكل مفتوح بعض أقوى أسلحتها في هذه المعمعة.. فهي سمحت باستمرار تدفق غازها ونفطها إلى زبائنها الغربيين، رغم درايتها بأنه لا بديل في متناول أيديهم، لا راهنا ولا في الأجل المنظور، لمصدري الطاقة هذين.

إلى أن تفلح جهود إسكات المدافع في أوكرانيا، يظل تبادل القصف بالعقوبات متعددة العناوين، بين أقطاب لديهم كل إمكانات الدمار الشامل، خياراً أفضل من انغماس هؤلاء عسكرياً في الحرب، وما سيتداعى حتماً عن ذلك من اندياح للنيران خارج الميدان الحالي.

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

Email