الطاقة والجغرافيا السياسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

نظراً لأن 84 % من طاقتنا لا يزال مصدرها يأتي من النفط والفحم والغاز، فإنه ينتظرنا الكثير من أجل التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة.

ولمجرد أن مستقبلاً مختلفاً سيأتي فهذا لا يعني أن الحاضر سيتخلى عن سيطرته.

فمصادر الطاقة المتجددة لا تغير مركزية الطاقة في الجغرافيا السياسية، كذلك، نظراً لأن انتقال الطاقة سيكون طويلاً، فإنه لن ينهي بسرعة الجغرافيا السياسية للوقود الأحفوري.

وكانت الطاقة من الوقود الأحفوري مركزية في الجغرافيا السياسية على مدى ما يقرب من 200 عام. في عام 1839، تغيرت العلاقة بين أوروبا الغربية والصين بشكل حاسم عندما نشرت بريطانيا سفناً بخارية تعمل بالفحم في حرب الأفيون الأولى، وفتحت هذه الخطوة الصين أمام تعاقب القوى الإمبريالية. ثم أدى التحول إلى النفط في القرن العشرين إلى جعل الولايات المتحدة القوة المهيمنة في العالم، ما أطلق بداية انحدار القوى العظمى في أوروبا. وعلى مدى العقد الماضي، تنافست الولايات المتحدة وروسيا لبيع الغاز إلى أوروبا، كما كان الحال مع النفط في بداية القرن الماضي.

وتشعل مصادر الطاقة صراعات جيوسياسية دراماتيكية مع آثار لاحقة تستمر عقوداً. لنأخذ، على سبيل المثال، أزمة السويس في عام 1956. عندما استخدم الرئيس الأمريكي، دوايت أيزنهاور، القوة المالية لبلاده لوقف العمل العسكري الأنجلو- فرنسي ضد مصر، والذي كان مصمماً لحماية مصالح الطاقة لأوروبا الغربية في الشرق الأوسط. وقد شجعت الولايات المتحدة هذه المصالح، رغبة في حماية الإمدادات من نصف الكرة الغربي لنفسها. وخوفاً من أن حليفهم المفترض في الناتو يمكن أن يخونهم، باشر العديد من الدول الأوروبية في الاستدارة نحو ما كان يُعرف آنذاك بالنفط السوفييتي والذي أصبح النفط الروسي حالياً. وفي فترة السبعينيات، امتدت علاقة الطاقة هذه بين الاتحاد السوفييتي وأوروبا لتشمل الغاز.

ومنذ أن أوضح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأول مرة في عام 2008 في جورجيا أنه لا يقبل الحدود التي أنشأها تفكك الاتحاد السوفييتي، أدت هذه التبعية إلى تقييد سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه روسيا، كما حولت المصالح التكميلية للوقود الأحفوري الصين وروسيا إلى حلفاء ضمنيين.

ولا يمكن أن تعطي أبحاث الطاقة التي لا تأخذ في الحسبان مثل تلك الحقائق، إلا صورة جزئية، بدءاً من علم المواد إلى نمذجة الانبعاثات إلى تسعير الكربون.

في وقت مبكر من التسعينيات، كان من الواضح أن معالجة قضية تغير المناخ ستكون مقيَّدة بالجغرافيا السياسية، وأن الخيارات المتعلقة بأي مصدر من مصادر الطاقة الجديدة سيتم تطويرها، ستكون لها عواقب جيوسياسية. وقد رفضت الولايات المتحدة التصديق على بروتوكول كيوتو لعام 1997 بشأن انبعاثات غازات الدفيئة لأن مجلس الشيوخ بأكمله تقريباً اعتقد أن الاتفاقية التي تقرض التزامات على الولايات المتحدة وليس على الصين المصنفة دولة نامية، ستضر بالاقتصاد الأمريكي. وفي غضون ذلك، انتقلت الحكومة الائتلافية 1998-2005 في برلين إلى الطاقة المتجددة وبدأت في التخلص التدريجي من الطاقة النووية، مما أدى إلى تعميق اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي. وفي الوقت نفسه، بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جهداً استراتيجياً على مدى عقدين من الزمن لإزالة أوكرانيا من نظام نقل الغاز الروسي.

وفي سياق ذلك، أوجد تغير المناخ حوافز شديدة للتعاون بين الخصمين الجيوسياسيين، وخاصة أكبر دولتين مسببتين لانبعاثات الكربون في العالم: الصين والولايات المتحدة. وعلى الرغم من التدهور في العلاقات الصينية الأمريكية منذ عام 2010 تقريباً، إلا أن الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، أبرم اتفاقية بشأن الانبعاثات مع الرئيس الصيني شي جينبينغ في نوفمبر 2014، كانت مقدمة أساسية لاتفاق باريس للمناخ في العام التالي. ولكن حتى تلك اللحظة من التعاون الأمريكي الصيني لم تتمكن من تتجاوز الجغرافيا السياسية. ففي العام نفسه، توصل الرئيس الصيني شي جينبينغ أيضاً إلى اتفاق مع بوتين لبناء خط أنابيب غاز «قوة سيبيريا». وتم افتتاحه في عام 2019، وهو أول أنبوب ينقل الغاز شرقاً إلى آسيا بدلاً من غرباً إلى أوروبا. بالنسبة على الصين، كان هذا على الأقل مهماً كتوافق مع واشنطن بشأن المناخ.

وتتنافس الدول على تصنيع البنية التحتية للطاقة الخضراء، مثل الألواح الشمسية وتوربينات الرياح وإنتاج السيارات الكهربائية بكميات كبيرة. في مايو 2015، أعلن الحزب الشيوعي الصيني عن خطة – صُنع في الصين 2025 – لتحويل البلاد إلى قوة عظمى للتصنيع عالي التقنية، بما في ذلك السيارات الكهربائية، مع التأكد من إنتاجها 70% من الموارد الأساسية اللازمة. وكانت الحرب التجارية والتكنولوجية التي شنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع بكين بمثابة رد فعل في الأساس على هذا الطموح الصيني، وقد حظيت بدعم من الحزبين.

وهناك خوف واضح في واشنطن من أن عصر الطاقة الخضراء سيكون عصر الصين. وتعتمد البنية التحتية للطاقة المتجددة بشكل كبير على معادن الأرض النادرة، التي تهمين الصين على إنتاجها بالكامل تقريباً. وسبق أن قال دينغ شياو بينغ، الزعيم السابق للحزب الشيوعي الصيني ذات مرة، ساخراً: «الشرق الأوسط لديه نفط والصين لديها أرض نادرة». وعلى مدار العقد الماضي، كانت الصين أيضاً على استعداد لاستخدام هذه السيطرة كسلاح جيوسياسي، وفرضت حظراً على تصدير جميع معادن الأرض النادرة إلى اليابان في عام 2010 بعد صراع حول سفينة صيد في بحر الصين الشرقي. وأصبح اللحاق بالركب لإنشاء صناعة محلية حول استخراج «معادن التكنولوجيا» ضرورة وطنية بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

باختصار، لا توجد طريقة يمكن للحكومات أن تكون جادة بشأن انتقال الطاقة من دون وجود استراتيجية واقعية للمشكلات التي يخبرنا التاريخ أنها ستنشأ عندما تظهر الجغرافيا السياسية لمصادر الطاقة القديمة والجديدة مجتمعة. وما لم تتم مواجهة هذه المعضلات، من قبل المواطنين كمستهلكين للطاقة، ومن قبل العلماء وعلماء الاجتماع، وكذلك من قبل الحكومات، فإن تلك المعضلات ستصبح أكثر صعوبة من أي وقت مضى.

 

* أستاذة الاقتصاد السياسي في جامعة كامبردج بالمملكة المتحدة ومؤلفة كتاب «الاضطراب: الأوقات الصعبة في القرن الحادي والعشرين»

* ترجمة: نهى حوّا

Email