في هذه المرحلة من عمر العالم.. البقاء للأذكى، والبقاء لمن يمتلك مفردات المعادلة السياسية في النظام العالمي الجديد.
عواصف الحرب الروسية الأوكرانية تجتاح العالم أجمع. الشرق الأوسط والمنطقة العربية ليسا بعيدين عن ارتدادات هذه العواصف. التحركات العربية في هذه الفترة تؤكد ذكاء استراتيجياً مستقبلياً سيفضي إلى ملامح عربية، ووضع عربي جديد لم نشهده على الأقل في العقود الأخيرة.
العرب أدركوا أنه لا بديل عن الوحدة العربية، ولا مناص من الحفاظ على استقرار الأمن القومي العربي، ولا ضمانة للمستقبل العربي، من دون تحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي للشعوب العربية، وتعميق التعاون العربي - العربي في المجالات الاقتصادية الاستراتيجية، مثل الغذاء والطاقة.
الحراك العربي، الذي تشهده المنطقة، يؤشر إلى قراءة عربية صحيحة لطبيعة التفاعلات الجديدة، وأن هناك تعاطياً بروح مختلفة مع المقاربات الجديدة التي يعيشها العالم، وتحتاج إلى رؤية وتقدير نوعي من العرب، لمواجهة الآثار السلبية لهذه العاصفة العالمية. تحليل مضمون الخطاب الإعلامي والسياسي العربي، يؤكد أننا أمام حالة توافق والتقاء وإدراك حقيقي لماهية وصعوبة ما يدور من حولنا.
بل إنه يكشف عن إرادة سياسية، واصطفاف عربي نحو الحفاظ على استقرار الخرائط العربية، وصون مفهوم الدولة الوطنية، والانتباه لعدم السماح بزحف مناهج الفوضى والتخريب مرة ثانية، ولا سيما أن المنطقة لا تزال تعاني أوجاعها مما حدث عام 2011.
إذن، نحن أمام تحرك عربي واعٍ، وخطاب سياسي واضح في مفرداته، وتقدير موقف قائم على فهم عميق، وقراءة موضوعية لما هو متوقع في الفترات المقبلة، من تأثيرات للحرب الروسية - الأوكرانية، وخصوصاً في ظل السيناريوهات التي تشير إلى إطالة أمد هذه الحرب.
الرؤية العربية بدت واضحة منذ الإشارات الأولى لمخرجات القمة المصرية - الإماراتية بمدينة شرم الشيخ، إذ أكدت أن هناك تضامناً وتكاملاً في الرؤية والأساليب والأهداف بين البلدين، لتجاوز هذه الأزمات وسبل التعامل مع تداعياتها، فهذه القمة أشارت بشكل واضح وصريح إلى جملة من القضايا الاستراتيجية، وفي مقدمتها قضية الطاقة والغذاء.
بعد هذه القمة، تأتي القمة العربية الرباعية التي ضمت مصر والإمارات والعراق والأردن في مدينة العقبة، والتي أضافت مزيداً من الثقة والتنسيق العربي - العربي، بما يخدم الأهداف الجماعية للعالم العربي والإقليم. من يقرأ تفاصيل وملامح هذه القمة، يتأكد له أن هذه القمة نجحت في رسم طريق لكيفية تعامل المنطقة مع التحديات الجديدة، سواء على الصعيد المنظور أو البعيد والاستراتيجي.
هاتان القمتان جاءت بعدهما قمة «النقب»، لتتسع دائرة الرؤية لتشمل إقليم الشرق الأوسط، والعمل على توسيع جسور الحوار، وتثبيت مفردات السلام والرخاء والتسامح، بديلاً عن أصوات الرصاص والبنادق والإرهاب التي سادت الشرق الأوسط في السنوات والعقود الماضية.
إذن، نحن أمام منطقة وإقليم، يعيد ترتيب أوراقه من جديد، وخصوصاً أن القوى العالمية الكبرى منخرطة في صراعاتها ومصالحها الخاصة، ومن ثم لم تعد أمام دول المنطقة رفاهية الانتظار، أو المشاهدة من بعيد، فرياح العاصفة لا شك في أنها ستخلق أجواء، قطعاً لن تكون في مصلحة استقرار المنطقة وشعوبها، وهو الأمر الذي دفع القادة العرب للتحرك بشكل استباقي واستراتيجي، للحفاظ على استقرار المقدرات العربية، وتأمينها من أي زلازل سياسية، جراء المتغيرات والصراعات الدولية القائمة الآن.
كل شواهد التحركات العربية - العربية تؤطر إلى مرحلة عربية تسود فيها لغة المصالح، ومفردات القوة والحسابات الدقيقة، واستعادة روح وعافية العواصم العربية، التي لا تزال في مرحلة التعافي. أرى أن الفترات المقبلة، ستشهد مزيداً من هذه القمم، وتوسيع مساحات التشارك والتعاون، من أجل بناء منظومة عربية قوية وراسخة، لا تتأثر بالمتغيرات الطارئة، فضلاً عن التأسيس لمشروع عربي، بمقام كتلة عربية وازنة في معادلة الأمم الفاعلة على الساحتين، الإقليمية والدولية.
ما أقوله هذا ليس بعيداً، فقد بدأت القمة العربية في العامين الأخيرين بشكل ثلاثي، ثم اتسعت لتصبح قمة رباعية، بدخول دولة الإمارات العربية المتحدة، والآن كل المعطيات تقول: إن الباب مفتوح، بل إن هناك ترحيباً عربياً واسعاً للمشاركة في قمم أخرى مقبلة، تؤكد التعاون العربي - العربي.
* رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي
جمال الكشكي *