إذا سألت أحداً، كم تملك؟ سيضع يده في جيبه أو سيخبرك عن رصيد حسابه البنكي، والحقيقة أن هنالك الكثير من الواقعية في هذه الإجابة، فالمال يجلب لنا الكثير مما نحتاج إليه، ولكنه لا يجعلنا أغنياء، فإذا كنا نملك ما يكفي من المال لشراء سمكة، فهذا لا يجعلنا في غنى عن عمل الصياد، فنحن في هذا المثال نشتري بما لدينا من أموال ما نحتاج إليه من الأسماك، ولن نصبح أغنياء إلا إذا تعلمنا كيف نصطاد، عندها ستزول حاجتنا إلى الصياد ونصبح في غنى عنه، فالغني هو من استغنى عن الناس بما لديه، واكتفى بذاته عن الآخرين، والتاريخ مليء بقصص المحتاجين من أصحاب الأموال الطائلة.
كان طلحة بن المتوكل أحد أحفاد هارون الرشيد، وأحد المشهورين بالشجاعة والأدب والعلم من بين الأسرة العباسية الحاكمة، وكان شاباً ثرياً محبوباً بين الناس، وعندما تولى أخوه المعتمد الخلافة، جعل ولاية العهد لطلحة، ولكن طلحة أصيب بمرض جعله يشعر بألم شديد كلما مشى على قدميه، فجعل مجموعة من الرجال يتناوبون على حمله، كلما أراد التنقل من مكان إلى آخر، وفي يوم من الأيام رأى عليهم آثار التعب والضجر من حمله على أعناقهم، فقال لهم: أراكم قد مللتم من حملي، ولكنني أتمنى أن أكون كواحد منكم، آكل كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، وأرقد كما ترقدون في صحة وعافية. فإذا سألنا طلحة، كم تملك؟ فلن يعد الدراهم والدنانير التي يملكها فقط، ولكنه سيعد كل النعم التي منّ الله بها عليه، من صحة وأمن وأمان وأسرة ومجتمع وعلم وغيرها من النعم، وإذا سألناه عن الأغنياء، سيشير إلى أولئك الذين يعملون تحت إمرته، ويحملونه على أعناقهم، لأنه يفتقر إلى ما يتمتعون به.
لا أؤمن بأن القناعة كنز لا يفنى، ولكن الرضا بما قسم الله لنا هو الكنز، وهو السبيل الوحيد للوصول إلى الغنى، فالرضا لا يعني التوقف عن البحث عن الأفضل، ولكنه يعني السعي للوصول إلى الأفضل مع الاستمتاع بما بين أيدينا من النعم، ومن أفضل ما قيل، هو ما قاله الراحل محمود درويش: «وأنت في طريقك للبحث عن حياة، لا تنسَ أن تعيش». نعم ابحث عن حياة أفضل، عن راتب أفضل، عن عمل يجعلك أكثر سعادة، ولكن لا تنسَ بأن تستمتع بالحاضر وأنت في طريقك إلى المستقبل، فالفرق الحقيقي بين الغني والفقير هو مقدار ما في قلب الإنسان من الرضا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وارضَ بما قَسَمَ اللهُ لكَ تكُنْ أغْنَى الناسِ»، ويروى أن أحد أباطرة الصين قضى فترة شبابه كلها وهو يبحث عن أكسير الخلود، وهو دواء أسطوري لا وجود له، فعاش حياته كلها في تعاسة وشقاء، لأنه على الرغم من كل ما لديه من أموال وقوة، كان فقيراً، لأنه لم يستطع الوصول إلى الرضا.