«جيفاغو» أم «زيفاكو»؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

يثير اسم الرواية التي كتبها الشاعر السوفييتي الكبير بوريس باسترناك، لغطاً كبيراً في المدونات والأدبيات العربية المتعلقة بالأدب. يشمل ذلك الأدبيات النقدية والثقافية والترجمات العربية للرواية والعروض النقدية حولها.

إذ تكاد هذه كلها لا تتفق على «لفظ» أو «رسم» محدد معروف لاسم هذه الرواية، كما لا يستند أي منها إلى أسباب موضوعية واضحة، في تبرير اختياره لفظاً (رسماً) معيناً لاسم الرواية دون سواه.

بعض هذه الأدبيات، تسمي هذه الرواية «الدكتور جيفاغو»، وبعضها الآخر يسميها «الدكتور زيفاكو». ولا يقتصر الأمر على ذلك، فهناك العديد من التصرفات الأخرى، إذ يمكننا أن نرصد في الأدبيات العربية، أيضاً، صيغ مثل: «الدكتور جيفاكو» و«الدكتور زيفاغو» و«الدكتور زيفاجو» و«الدكتور دزيفاجو».

وللوهلة الأولى، لا يبدو أن هنالك فارقاً كبيراً بين كل هذه الأسماء، وأننا لو استخدمنا أي منها، فلن يغير ذلك من الأمر شيئاً، أي، سواء قلنا: «جيفاغو» أم «جيفاكو» أم «زيفاكو» أم «زيفاغو» أم «زيفاجو» أم «دزيفاجو»، فلن يخرج الأمر عن إطار الإشارة إلى الرواية الشهيرة، التي كتبها الشاعر السوفييتي الشهير.

وهذا صحيح، من حيث المبدأ، ولكن ذلك يُضيّع المعنى والإشارات الخفية، و«ما وراء السطور» التي كان يرمي إليها الكاتب، من وراء اختيار هذا الاسم غير الشائع في اللغة الروسية، اسماً لبطله. بل ودفعه لأن يكون هذا الاسم غير الشائع لبطله، بالذات، هو عنوان الرواية أيضاً.

صحيح أن الاسم بصيغته الصحيحة، المترجمة، لا ينقل هذه المغازي، وذلك المعنى، وتلك الإشارات الخفية التي تكمن «ما وراء السطور» إلى القارئ الأجنبي، سواء كان عربياً أم غيره. ولكن الاسم بصيغته الصحيحة، يحافظ على مقاصد الكاتب، ورسائل النص. مثلما أن قارئ اللغة الأصلية، يدرك هذه المقاصد عقلياً، ويستشعرها عبر إحساسه، وبالتالي، فإن عجز الترجمة عن نقل تلك المعاني والمغازي، لا يبرر الانحراف عن اللفظ (الرسم) الأصلي لاسم البطل والرواية، فالحفاظ عليه يعطي مجالاً لاستجلائه بواسطة النقد الأدبي والثقافي، الذي يمكن أن يتوقف عند هذه الخصوصيات والخفايا وبواطن النص، وما وراء سطوره ومفرداته، ويمكنه أن يضع القارئ بصورة مقاصد الكاتب.

حسناً، ما اللفظ الصحيح لاسم هذه الرواية، والشخصية الرئيسة فيها، حسب اللغة الأصلية للنص؟

إنه بلا شك، وبكلمة واحدة قاطعة: «الدكتور جيفاغو». ويلفظ بالروسية، وعلى وجه التحديد: «دكتور جيفاغا». ونلفظه نحن، أبناء العربية، «جيفاغو»، لأننا نلفظ ما نكتب. ولأننا، كذلك، نغفل عن أن حرف الـ «أو» في نهاية الاسم، يلفظ باللغة الأصل، بما يتوافق مع لفظ حرف الألف بالعربية. وهذا ينطبق على كثير من الأسماء الروسية التي نعرفها، مثل اسم الزعيم السوفييتي السابق «تشيرنينكو»، الذي يلفظ بالروسية «تشيرنينكا»، واسم وزير الخارجية السوفييتي الشهير السابق «غروميكو»، الذي يلفظ «غروميكا».

وهذا ينطبق على كل الأسماء الروسية، التي تنتهي بهذه الـ «أو».

بالمناسبة، هذا ينطبق على الاسم الأول لكاتب الرواية، الذي يُكتب (يُرسم) باستخدام حرف الـ «أو» في ثاني حروفه، فنقرأه نحن «بوريس»، تتبعاً لرسم الحروف، بينما يلفظ بلغته الأم: «باريس»!

لا شك أن الترجمة عبر لغات وسيطة، كان لها دورها في خلق هذا الخلط، فالإنجليزية والفرنسية والألمانية، وكثير من اللغات غيرها، تستخدم مزيجاً من حرفي (ZH)، في رسم بعض الأسماء الأجنبية، التي تتضمن «جيم» مشبعة، ومنها اسم هذه الرواية (وكذلك أسماء من قبيل: ديرجافين وسولجينتسين، ولوجكوف، مثلاً). ولكن أبناء هذه اللغات الأجنبية، يلفظون الاسم، بناء على هذين الحرفين، بالصورة الصحيحة: «جيفاغو».

أي، بالـ «جيم» المشبعة.

لكن هذين الحرفين، أعطيانا في فضاء اللغة العربية، وبفعل الترجمة عبر لغات وسيطة، صوتاً آخر، هو «ز»، فدرج البعض يقول: «زيفاكو» و«زيفاغو» و«زيفاجو»، وأحياناً «دزيفاجو».

هذه بالطبع، تفاصيل تتعلق بأصل لفظ اسم الرواية وشخصيتها الرئيسة، وفقاً لمنطوق وملفوظ اللغة الأم. ولكن هذه التفاصيل، لا تميط اللثام بعد عن المعنى والإشارات الأدبية الخفية، و«ما وراء السطور»، التي كان يرمي إليها الكاتب من وراء اختيار هذا الاسم غير الشائع، بالذات، اسماً للشخصية الرئيسة في روايته، واختيار اسم هذه الشخصية الرئيسة، تحديداً، عنواناً لهذه الرواية. ولكن هذه رحلة طويلة وممتعة في قراءة النص، وتبصر عقل الكاتب، الذي أراد لبطل روايته، أن يكون «جيفاغو»، وليس «زيفاكو» أو «زيفاغو»، أو غير ذلك!

إننا نتحدث، على وجه الخصوص، عن فداحة ما يضيع من النص في الترجمة، والترجمة عبر لغة وسيطة!

Email