الصلوات لم تبق واحدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

(مطلوب موظف يتحدث التركية.. أجْرٌ مُرضٍ.. الخبرة غير مطلوبة.. يُفضَّل المتقدمون غير المدخنين) كان هذا هو نص الإعلان الذي نشرته روزلا في إحدى الصحف الألمانية.

قرأت الإعلان بيلين، التي كانت تبيع الصحف في أوقات فراغها من دراستها بالجامعة، فقررت التقدم للحصول على الوظيفة.

ذهبت بيلين إلى العنوان المذكور في الإعلان فاستقبلتها روزلا بلطف وترحاب. بدت بيلين متوترة، فحاولت روزلا طمأنتها. قالت بيلين إنها دائماً ما تشعر بالتوتر أثناء مقابلات التقدم للعمل، والسبب هو أنها لم تمر بمقابلة بلا مشاكل إلى اليوم. طلبت منها روزلا أن لا تنظر إلى الأمر على أنه مقابلة. قالت بيلين: ما هو إذن؟

ردت عليها روزلا قائلة: «اعتبريه زيارة، زيارة مسائية. اعتبري أنك جئت لزيارة عمة لك مسنة، وتقطن بعيداً».

هكذا بدأ الحوار بين السيدة الثمانينية الألمانية روزلا والشابة التركية بيلين، بطلتي رواية «الصلوات تبقى واحدة» للكاتب التركي تونا كيرميتشي، لكنه تشعب كثيراً بعد ذلك ليستغرق الرواية كلها حتى النهاية.يتجه مسار الحديث عبر الرواية نحو العلاقات بين البشر؛ كيف تتكون بسهولة، وكيف تتشابك، وكيف تتعقد، وكيف تصل إلى طرق مسدودة أحياناً، لتصبح الصلوات هي ما يجمع بين البشر رغم اختلاف الديانات، وفق تعبير روزلا المأخوذ عن شاعر من القدس.

حيث تقول أثناء الحوار: «حتى مع اختلاف الديانات تبقى الصلوات واحدة يا آنستي... اللهفة والآمال والمخاوف كلها متشابهة... لهذا فقبل أن تُديني أحداً ينبغي أن تستمعي إلى صلواته بحرص. عندها فقط يمكنك معرفة هذا الشخص».لم يشكل فارق العمر بين روزلا وبيلين حاجزاً بينهما، ولكن ظل احترام فارق التجارب والخبرات المتعددة التي يكتسبها الإنسان قائماً في نظر بيلين.

لذلك كان رد روزلا على بيلين عندما أشارت إلى هذا الفارق هو:«ربما سر الحياة لا يكمن في الطريقة التي نعيش بها، ولكن في الطريقة التي نحكي بها عن حياتنا.

هناك الكثير من الحيوات التي لا يوجد فيها ما يؤرقها، لكنها تتحول إلى قصة رائعة من خلال موهبة الحكي». كانت روزلا تبحث عمن يحدثها باللغة التركية التي تعلمتها أثناء إقامتها في إسطنبول التي غادرتها عائدة إلى ألمانيا قبل ستين عاماً، وهي توشك أن تختم الآن حياتها. لهذا نشرت الإعلان الذي قرأته بيلين بالصدفة.

- هل ذهبت قبل ذلك إلى كنيسة أيا يورجي؟ (سألت روزلا)

- الكنيسة التي في بويوكادا؟ (ردت بيلين)

- نعم. (قالت روزلا)

- لا.. لم أفعل. (قالت بيلين)

- في تلك الأيام كنت أذهب هناك كلما شعرت بالملل والحزن. كما تعرفين ينبغي عليك أن تتسلقي تلاً منحدراً كي تصلي إلى الكنيسة. لست خبيرة في معتقدات المسيحيين الأرثوذوكس لكن ما أعرفه أن تسلق التل يرمز إلى معاناة النساك. في النهاية عندما تصلين إلى هناك توقدين شمعة وتصلين للرب بغض النظر عن ديانتك. قد يكتب بعض الناس صلواتهم على أوراق صغيرة ويتركونها في الكنيسة. هل تعرفين ما أكثر الأشياء إثارة في هذا؟ (قالت روزلا)

- أن جميع الدعوات واحدة؟ (ردت بيلين)

- برافو آنستي. الدعوات دائماً واحدة. يصلي الناس الذين لديهم معتقدات دينية مختلفة في الكنيسة على هذه الجزيرة اليهودية. لكنهم يطلبون من الرب الأشياء نفسها. رب امنحني صحة وبنياناً جيداً. امنحني زيجة صالحة. امنحني أبناء صالحين. لا تدعني أشعر بالخزي تجاه أسرتي. اجعل عملي يسير على ما يرام. أما الأفراد الأقل أنانية والأكثر محبة للغير فهم يدعون للبشر أن يصبحوا أخوات وإخوة، ويدعون بانتهاء الحروب. (قالت روزلا)

- هل ما زال هذا يحدث إلى اليوم؟ (سألت بيلين)

- على الأغلب. أيا يورجي ليس بالمكان الذي يتغير بهذه السهولة. (ردت روزلا)

كانت روزلا ألمانية يهودية فرت من مطاردة النازيين لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية ولجأت إلى تركيا المسلمة، حيث عاشت في سلام، ثم عادت مرة أخرى إلى وطنها بعد انتهاء الحرب وزوال الحكم النازي. وكانت بيلين تركية مسلمة، أتت للدراسة في ألمانيا فجمعها بروزلا هذا الحوار حول الصلوات وغيرها من الموضوعات.

ويبقى السؤال:

-تُرى هل بقيت الصلوات واحدة، وهل ثمة من يدعو بانتهاء الحروب هذه الأيام؟

يبدو أن الصلوات لم تبق واحدة، وإلا لما رأينا كل هذا الكم من الدماء، وكل هذه المجاميع من البشر الذين يُقتَلون أو يُهجَّرون من بلدانهم بسبب الحروب.

* كاتب وإعلامي إماراتي

 

Email