دروس من صراع الشرق والغرب

ت + ت - الحجم الطبيعي

يشهد العالم صراعات ومنافسات سياسية واقتصادية تدور رحاها بين قوى كبرى، بعضها في الشرق وبعضها في الغرب، وبالأخص بين روسيا من جهة والغرب متمثلاً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، وكذلك التنافس الاستراتيجي بين الصين وأمريكا على السيطرة والنفوذ.

لقد شهدت العقود الماضية هيمنة القطب الواحد، والتي تمثلت في السياسات الأمريكية التي اتصفت بالهيمنة والتفرد في قيادة العالم، إلا أن بوادر أفول هذه الأحادية القطبية لاحت في الأفق منذ سنوات، وبدأت تحولات جديدة تموج في النظام العالمي تتسم بتعدد الأقطاب، ومن أبرز ملامحها الصعود الصيني الاقتصادي الذي اعتبرته أمريكا تهديداً لمصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، وخصوصاً مع تمدد الصين المتزايد في أمريكا اللاتينية والكاريبي، والذي يهدد النفوذ الأمريكي هناك بشكل مباشر، مع ما شهدته بعض هذه الدول من وصول التيارات اليسارية إلى سدة الحكم فيها، والتي تنتهج نهجاً عدائياً مناهضاً للتمدد الأمريكي، ومحاولة هذه الدول تأسيس تكتل إقليمي مماثل للاتحاد الأوروبي لانتزاع النفوذ الأمريكي في هذه المنطقة والتحول إلى قوة إقليمية ودولية مؤثرة.

كما تمثلت إحدى هذه التحولات التي يشهدها النظام العالمي أيضاً في الصعود الروسي، وتنامي دوره إقليمياً ودولياً، وخصوصاً بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم إلى أراضيها عام 2014، وتدخلها العسكري في سوريا عام 2015، والتي أكدت بها روسيا دورها كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط، وما تلا ذلك من تصاعد الصراع الروسي الغربي حول أوكرانيا، وما نتج عن ذلك أخيراً من اعتراف الرئيس الروسي باستقلال الانفصاليين الموالين لروسيا، والتهديد بالعقوبات من قبل الغرب، بالإضافة إلى تنامي الوجود الروسي في أمريكا اللاتينية، وتطوير التعاون مع هذه الدول في مجالات عدة بما في ذلك التعاون العسكري، حتى قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف: «إن منطقة أمريكا اللاتينية تعد أحد الأركان الرئيسية للنظام العالمي الجديد الآخذ في التبلور والمتميز بتعددية الأقطاب».

إن في طيات هذه المعطيات وغيرها دروساً كثيرة، ومن أهمها أنه لا تحصين ولا ريادة ولا تأثير إلا بالأخذ بأسباب القوة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، سواء بتعزيز القوة الذاتية للدول في شتى المجالات، وخصوصاً المجالات الحيوية أو عبر إنشاء التحالفات والتكتلات الاستراتيجية وتوسيع نطاق الشراكات الدولية، وهو ما يقتضي من المجتمعات أن تقف مع قياداتها في مسيرتها لتلمس مكامن القوة، والأخذ بزمام المعرفة والتطوير والابتكار، والصعود المتواصل في ذلك، لتكون سبباً في نهضة دولتها ورقيها وازدهارها وديمومة أمنها واستقرارها.

هذه التحولات لا تقف عند حدود التقنيات والقوة المادية فقط، بل تتجاوز ذلك إلى التنافس في المبادئ والقيم والهويات، بل شهدنا لجوء بعض هذه القوى الكبرى إلى الدين كأحد أدوات التأثير والتمدد والاستقطاب، مع تراجع الليبرالية الغربية في النظام العالمي، وما قد ينتج عن هذه التجاذبات من صراع الأفكار والأيديولوجيات بين المعسكرات التي تتنافس والتكتلات التي تسعى للظهور، وبالتالي فإن تلاحم المجتمعات واجتماعها تحت سقف قيمها وهويتها مع تمسكها بمبادئ التسامح واحترام الآخرين سبب رئيس من أسباب قوتها ووحدتها، وتحصينها من الاستقطابات الفكرية والأيديولوجية، والناظر في العقود الماضية يجد خير برهان على ذلك فيما نجم عن التنافس بين القوى الكبرى من استقطابات أيديولوجية إبان الصراع الشيوعي الغربي.

ومن هذه الدروس أن دوام الحال من المحال، وأن بقاء القوة والتأثير مرهون بأسباب وعوامل، فها نحن نجد اليوم بعض القوى الكبرى التي كانت بالأمس سيدة القطب الواحد وتحمل رايات الهيمنة والتبشير بالديمقراطية وتغيير الأنظمة تذوق من الكأس المر نفسه، وفي عقر منطقتها، بعد أن وصل إلى سدة الحكم في الدول المحيطة بها من يعادونها ويناهضون سياساتها، وذلك بالديمقراطية وصناديق الاقتراع!!

إن هذه الأوضاع تقتضي منا دولاً وشعوباً، مفكرين ومثقفين وعلماء، أن نبحث عن أسباب القوة المادية والمعنوية، ونعزز مقومات القوة الذاتية التي نمتلكها، وننطلق دون تردد خلف قياداتنا في سباق التنافس نحو الريادة العالمية، مؤمنين بأنه لا مستحيل طالما امتلكنا الإرادة والطموح ووحدة الرؤية وقوة الإنجاز والقيم الأصيلة التي تصون سفينتنا وتقودها نحو بر الريادة والصدارة.

 

* كاتب إماراتي

Email