أصبحت حديث العالم، أحداثها تستحق التوقف والقراءة والتأمل، اللعبة كبيرة، بلاد الفارابي والظاهر بيبرس، تمر بمنعطف في منتهى الخطورة، كازاخستان باتت حلبة الصراع بين القوى العظمى، استهداف روسيا والصين عبر العاصمة «ألما آتا»، تضييق الخناق على الكرملين من خلال توسيع دائرة التوترات والاضطرابات.
ربيع براغ لم يختلف كثيراً عن الربيع الكازاخي، ولم تختلف مفرداته عن الثورات الملونة في جورجيا أوكرانيا، فلاديمير بوتين لم يتردد في الاستجابة لنداء الخرائط السوفييتية القديمة، ابن الـ«كي. جي. بي»، أرسل قواته إلى كازاخستان في الوقت المناسب.
الأحداث الكازاخية نقطة تحول في مستقبل كل دول آسيا الوسطى، التوقيت فارق، والأهداف شديدة التعقيد، إدارة حرب حديثة بقواعد قديمة، استراتيجية لم تعد صالحة للعبة الأمم في القرن الحادي والعشرين، براغ ليست «ألما آتا»، وبوتين ليس هو يلتسين، ولم يشبه يوماً ما جورباتشوف، الحسابات مختلفة، بوتين لديه من اليقظة الكافية لتحويل كل هذه الأزمات إلى فرص.
أزمة كازاخستان منحت القيصر فرصة التوسع والوجود، والتأثير، الخارجية الأمريكية قرأت الرسالة مبكراً، أنتوني بلينكن قالها صراحة: دروس التاريخ تقول ما إن دخل الروس بلداً ما، فإن إخراجهم يكون أحياناً أمراً بالغ الصعوبة.
الدبلوماسية الأمريكية تتعامل مع المشهد بواقعية، تنظر إلى خريطة آسيا الوسطى، فتتوقف أمام عشر سنوات قضاها السوفييت في أفغانستان، لم تغفل التوقف أيضاً أمام النفوذ والوجود السوفييتي في أوروبا الشرقية، الذي استمر منذ الحرب العالمية الثانية، وحتى انهيار الإمبراطورية في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1991.
ربما يتساءل البعض لماذا كازاخستان؟ وما الأهداف، وما أهميتها من الناحية الجيوسياسية والاستراتيجية؟
كازاخستان بلاد شاسعة تساوي مساحتها أوروبا الغربية، فمساحتها تصل إلى 2.7 مليون كيلو متر مربع تقريباً، وعدد سكانها نحو 19 مليون نسمة، وهي تاسع دولة من حيث المساحة، منحتها الجغرافيا أهمية خاصة، فهي تمثل عمق الأمن القومي الروسي من ناحية الجنوب، وتجاور الصين من الغرب.
الموقع كاشف لما يحاك ضد حلف «بكين - موسكو»، أكبر دولة حبيسة في العالم، تمتلك ثروات طبيعية من بينها 3٪ من احتياطي النفط العالمي، بالإضافة إلى الفحم والغاز واليورانيوم. كازاخستان دولة بمثابة رقم مهم بشهادة التاريخ، وأهمية الحاضر، وإستراتيجية المستقبل.
محاولة تشويه الاستقرار الكازاخي ليست مصادفة جغرافية، هذه البقعة من العالم تشكل أهمية كبرى في حسابات الصراع الاقتصادي والاستثماري بين الصين والغرب.
كازاخستان هي أقصر طريق لنقل البضائع الصينية إلى أوروبا، وتأزيمها ورقة مهمة لتضييق الخناق، والحصار على صعود بكين لقمة هرم القيادة العالمية، أيضاً إثارة قلاقل كازاخية تمثل خطوة ضاغطة على المنطقة الرخوة الروسية التي تبدأ من شمال القوقاز، وتمتد إلى آسيا الوسطى، ومن ثم صناعة «حلقة نار جديدة» حول الكرملين، بجانب الصراعات المستمرة في أوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا، الأمر الذي يطيل أمد الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها من جانب، وروسيا والصين من جانب آخر، وأن نظرية «الأناكوندا» التي بدأت منذ الحرب الأهلية الأمريكية، وتقوم على خنق الضحية دون قتلها، إنما هي نظرية لا تزال قائمة في الفكر الغربي، وهذا ما لمسناه في منهجية التعامل الأمريكي مع الخصوم.
وسط هذه المعطيات على الساحة الدولية، فإنني أرى أن ما يحدث في كازاخستان بمثابة سيناريو، يمكن تكراره في دول آسيا الوسطى التي تتشابه مع كازاخستان سياسياً وثقافياً وتاريخياً، ومن ثم، فإن كرة اللهب غير محددة الأهداف والأبعاد إلى الآن.
كما أن الشيء الذي يستحق التوقف أمامه هو أن خريطة آسيا الوسطى باتت مرشحة لمزيد من صراعات النفوذ والقوى، بين أقطاب العالم الثلاثة: الولايات المتحدة الأمريكية، والصين وروسيا.