المستقبل هو الماضي والحاضر

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيرة هي الدراسات والبحوث والمقالات التي تحدثت عن التراث والهوية وربطت بينهما وناقشت البعد النفسي والمكاني لكل واحدة منهما.

وفي هذا العصر تحديداً يكتسب هذا الموضوع حيوية أكبر ويعود له الكثيرون أمام التحديات المعاصرة التي تضغط على القيم والمبادئ والحصار الشديد الذي تمارسه العولمة بمختلف جوانبها سواء كانت: اقتصادية أو إجتماعية أم ثقافية.

وأمام مثل هذه التحديات بات موضوع التراث والهوية متجسداً كحاجة ملحة لأي أمة تريد أن تحافظ على مكانتها وإرثها وقيمها ومبادئها. التحدي لا يتثمل في الإندماج في ثقافات بعيدة أو في عادات طارئة وجديدة بل هناك تحدي آخر يتعلق بجهود لجعل قيم الشعوب وتراثها أشبه بالمسخ أو مشوهة تماماً وكأنها لا تناسب روح العصر الذي نعيشه. هذه التحديات ليست محصورة بأمة من الأمم ولا بشعب من شعوب الأرض، بل هو تحدي عام يواجه البشرية بأسرها، تحدي يهدد الإرث البشري بأسره وليس مورث دولة أو شعب أو أمة واحدة.

البعض يعتقد أن التراث هو الماضي هو ما أنتهى. والحقيقة أن التراث ليس الماضي وحسب وإنما أيضاً هو الحاضر الذي نعيشه، فما نشهده اليوم من تحولات ومن اختراعات وابتكارات ونهضة وتطور بشري غير مسبوق، لم تكن لتتم لولا هذا الإتصال مع كل ما تم توارثه وما تم نقله لنا ونحن ننتقل إلى العصر الحاضر وسيستمر التراث في النمو والإنتقال معنا من حقبة إلى أخرى. وهذه النقطة تنبه لها الكثير من الدراسين والعلماء في هذا المجال فهذا هو المفكر والمستشرق الفرنسي جاك بيرك، يقول: إن مستقبل العرب يتمثل في إحياء الماضي، لأن المستقبل في كثير من الحالات، هو: الماضي أو الحاضر الذي وقع إحياؤه وعيشه من جديد. ومن هذه النقطة يمكن فهم الربط الدائم بين التراث والهوية، لأنك ستجد أن هذه الهوية تشكلت وتأثرت بتراثها الممتد طوال عصور من الزمن، فالهوية البشرية قد التصقت به أو التحمت به بشكل واضح وتام، وباتت جزء منه. لذا يقال بأن التراث ليس جامداً أو متوقفاً مكانه وليس متعلقاً بعصر زمني ما أو بتاريخ محدد، هو ممتد ومستمر معنا.

ولو لم تكن هذه حقيقة لما تمكن الإنسان من البناء على ما سبق ولما أستفاد من الخبرات والتجارب التي سبقته، وعندما نقول التي سبقته فهذا يعني ما تم قبل أعوام وأعوام وليس في العصر الراهن، وعندما يكتمل المخترع فإنه سيتحول في المستقبل هو أيضاً إلى تراث يتم البناء عليه مرة أخرى.. هي عبارة عن سلسلة زمنية طويلة ينتقل الإنسان بواسطتها من عصر إلى آخر، لكنه لا ينتقل وهو خالي الوفاض، بل محمل بخبرات معرفية وعلمية وثقافية جديدة، تساعده للقفز خطوة أخرى نحو التطور والتقدم، الهوية التي تشكلت على أمتداد أعوام وعصور طويلة، هي جزء أصيل من هذا الإنسان، هي تراثه الحقيقي.

 

Email