عبر ذاكرة تتلاعب بنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

هل حدث أن مررت بموقف ما، فشعرت أن هذا الموقف مر بك في زمن آخر لا تستطيع أن تدركه؟

هل حدث أن جرى بينك وبين شخص ما حوار، فشعرت أن هذا الحوار دار بينك وبين شخص ما في موقف آخر لا تستطيع أن تتذكره؟

هل حدث أن قابلت شخصاً في مكان ما، فشعرت أنك رأيت وجه هذا الشخص في مكان آخر لا تستطيع أن تحدده؟

ربما كان قد حدث لك هذا، وربما لا، لكنه يحدث للكثيرين فلا يجدون له تفسيراً مقنعاً، أو ربما وجدوا، لكنهم مضطرون لإبعاده عن تفكيرهم لأنه قد يتعارض مع الدين والمعتقد الذي يؤمنون به. ورغم هذا، وبعيداً عن فكرة التناسخ، التي يؤمن بها البعض وتنكرها الديانات السماوية، نشعر أحياناً أننا جزء من مشهد مررنا به في زمن لا نعرف متى هو على وجه التحديد، أو أننا كنا أشخاصاً آخرين لا نعرف من هم، وأين عاشوا، ومتى عاشوا، وإلى أين ذهبوا.

مرة أخرى، هذا ليس تكريساً لفكرة التناسخ، ولكنه الانطباع الذي تخرج به بعد أن تقرأ رواية «بساتين البصرة» للكاتبة المصرية منصورة عزالدين.

أبطال الرواية الرئيسيون هم هشام خطاب، وأمه ليلى، وميرفت، الذين يعيشون في قرننا هذا، ويزيد بن أبيه الخوّاص، وزوجته مجيبة، وصديقه مالك بن عدي النسّاخ، الذين عاشوا في القرن الهجري الأول؛ شخصيات أتت من زمنين مختلفين، ورغم المسافة بين الزمنين فإن ثمة روابط بين بطل الرواية هشام خطاب، الذي يعيش في مصر، ويزيد بن أبيه الذي عاش في البصرة يوم كانت تموج بالعلماء، عندما أعلن واصل بن عطاء الغزّال خروجه على معلمه الحسن البصري، فقال الحسن قولته الشهيرة: «اعتزلنا واصل»، ليبدأ عصر من الجدال والمناظرة والانشقاق.

«وأما الياسمين: فقد حُكي أن رجلاً أتى الحسن البصري رحمه الله فقال: رأيت البارحة كأن الملائكة نزلت من السماء تلتقط الياسمين من البصرة. فاسترجع الحسن وقال: ذهب علماء البصرة. وقد قيل إن الياسمين يدل على الهمّ والحزن لأن أول اسمه يأس». بهذه العبارة، المنقولة من تفسير الأحلام الكبير المنسوب للإمام محمد بن سيرين، تُقدّم الكاتبة للرواية.

متأرجحاً بين شخصيته المعاصرة وشخصية يزيد بن أبيه الغابرة ظل هشام خطاب ينتقل من زمن إلى زمن. خطر له، بينما يتجسد ركض ذاته العتيقة أمام ناظريه، أن بداخله سراً لا قدرة له على تحمله، وأنه في جريه في ذاك الزمن الغابر كان يبحث عن حل للغز يقض مضجعه. في موقعه الحالي، على المقعد الرخامي أمام شجرة البومباكس، انتقلت إليه عدوى البحث وقلقه. عرف أنه، هشام خطاب، لن يتوقف عن البحث أبدا، سيظل مهجوساً به، عاجزاً عن هجره حتى لو عثر على مبتغاه. أرّقه عبء السر المفترض، رغم عدم وضع يده على كنهه؛ وبهذا استحال السر لغزاً جديداً يضاف إلى اللغز الأول الذي سعى تجسده السابق؛ يزيد بن أبيه، إلى فك شفرته.

على هذا النحو جاءت الرواية تجمع بين زمنين تربط بينهما الأحداث في خطين نشعر أنهما متباعدان أحياناً، ونشعر أحياناً أخرى أنهما متقاربان إلى درجة التناسخ، بينما يمضي الزمن عابراً كل الخطوط، صانعاً منها نسيجاً متنوع الأشكال والألوان والأحداث والشخوص ذات الرغبات والنزعات والأهواء والحسنات والخطايا.

كان مالك النساخ في زيارة له إلى الكرخ لشأن من شؤونه عندما صادف مجيبة بعد مرور عقود على آخر مرة رآها فيها. كان منشغلاً بذكرى زوجها، الذي قتله، يزيد بن أبيه، مفكراً فيه منذ الصباح، عندما لمح عجوزاً تبيع الأجاص في السوق، متشحة بملابس فقيرة متقشفة، لا يكاد يبين منها سوى اليدين والوجه. شيء فيها كان مألوفاً، دقق في عينيها، وبرغم الغضون المحيطة بهما وبهتان نظرتهما، تعرف فيهما على عيني مجيبة.

أخذته رعشة؛ فالمرأة الهرمة أمامه بدت له كمن قامت لتوها من بين الأموات. بعد أن تعرف إليها، وأخبرته بما جرى لها منذ أن غادرت البصرة وحتى رؤيته لها اليوم، أيقن أن الزمن حاجز يفصلنا عما مضى، حاجز غير مرئي، لكنه أقوى الحواجز وأقساها، لا سبيل إلى اختراقه والعودة إلى ما سبق وعشناه إلا خطفاً، وعبر ذاكرة تتلاعب بنا وفق أهوائها.

ها نحن قد عبرنا من زمن إلى زمن مودعين عاماً ومستقبلين عاماً، فهل تُرانا عبرنا حاجزاً غير مرئي، لا سبيل إلى اختراقه والعودة إلى ما سبق وعشناه إلا خطفاً، وعبر ذاكرة تتلاعب بنا وفق أهوائها؟

* كاتب وإعلامي إماراتي

Email