التطرف الفكري طريق الإرهاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

التطرف أحد أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات عبر العصور، وهو قضية عالمية تؤثر في الكثير من البلدان بجميع أنحاء العالم، ولذلك فهو محل عناية واهتمام من العلماء والباحثين والقانونيين والمؤسسات البحثية، وهو على رأس اهتمامات أجهزة الأمن الوطني في مختلف البلدان، مهما كان شكل هذا التطرف ونوعه، سواء أكان تطرفاً دينياً أم أيديولوجياً أم سياسياً أم عنصرياً أم غير ذلك.

وعلى الرغم من اختلاف الباحثين حول ماهية التطرف والإرهاب ومدى الارتباط التلازمي بينهما فإنه مما لا شك فيه أن التطرف في حد ذاته يمثل مشكلة وظاهرة سلبية، سواء أكان تطرفاً عنيفاً أم غير عنيف، وذلك باعتبار أن التطرف عموماً هو خروج عن نهج الوسطية والاعتدال والقيم الإيجابية التي تسهم في بناء مجتمع متحضر متماسك ينعم بالأمن والاستقرار، وخصوصاً إذا كان هذا التطرف مرتبطاً بنهج دعائي تسويقي، يحاول أصحابه نشر فيروسه في المجتمعات عبر التغذية الفكرية والممارسات الإعلامية، لتحقيق أكبر قدر من التجنيد والاستقطاب.

كما تكمن خطورة التطرف باعتباره درجات، بعضها يقود إلى بعض وصولاً إلى العنف المسلح، كما أكدت على ذلك الوقائع والشواهد القديمة والحديثة، كما جاء في قصة أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، مع أصحاب الحِلَق الذين تشددوا في الدين، وولجوا دوامة الغلو في الدين، حتى كان آخر أمرهم، كما قال الراوي: «رأينا عامة أولئك الحِلَق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج»، وكما هو حال بعض التيارات المعاصرة التي تدرجت في أدبياتها الفكرية حتى وصلت إلى إدراج العنف المسلح كوسيلة من وسائل تحقيق غاياتها السياسية، كما هو حال تنظيم الإخوان، الذي صرح مؤسسه حسن البنا بأنه لا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها قوة الساعد والسلاح، ولذلك خرج من تحت عباءة الإخوان تنظيمات إرهابية تدرجت في عنفها وصولاً إلى «القاعدة» و«داعش»، وقد كشفت الأحداث في السنوات الأخيرة عن المزيد عن الجانب الإرهابي لهذا التنظيم وأمثاله.

فالتطرف جسر يقود إلى ضفة العنف والإرهاب، وبالأخص إذا اقترن هذا التطرف بأجندات سياسية وحزبية وتنظيمية، تسعى للاستيلاء على أنظمة الحكم، وترتدي لذلك ألف قناع، كما هو حال التنظيم الإخواني.

وفي إطار مكافحة التطرف خرجت رؤى واستراتيجيات عدة حول ما يسمى بمعركة الأفكار، كاستراتيجية استباقية وقائية في معركة الإرهاب، وبرزت جوانب متنوعة في مكافحة التطرف كالعمل التوعوي والتربوي والشبابي والأسري والمجتمعي، ولم يعد الأمر قاصراً على الأجهزة القانونية والشرطية فقط في التعامل مع جريمة الإرهاب، بل تعدى ذلك إلى ما قبل الجريمة مما يدخل في نطاق الفكر لا القانون.

وفي هذه المعركة تأتي أهمية التوصيف الدقيق لماهية التطرف، والدراية المختصة عند التعاطي مع نوع معين من التطرف كالتطرف الديني، وذلك من قبل الباحثين ومهندسي استراتيجيات مكافحة الإرهاب، بشكل موضوعي حيادي يشخص مكامن الخلل والعلاج بدقة، دون أن يعالج الخلل بخلل آخر، ويأتي بتطرف محل تطرف آخر.

وتكمن الخطورة هنا في اختراق بعض المتأثرين أو المخدوعين بتيارات معينة لبعض هذه الجهات والمراكز البحثية، فيحاول تلميع هذا التيار أو ذاك، وإظهاره بمظهر التيار المعتدل، بل وجعله أداة من أدوات مكافحة الإرهاب، مع جهل أو تجاهل لما في هذه الرؤية من ترويج لتطرف من نوع آخر.

فعلى سبيل المثال يحصر بعض الباحثين في العالم الغربي التطرف في فكر «القاعدة» و«داعش»، ويحاول في المقابل تلميع صورة تيارات متطرفة أخرى كالتيار الإخواني، متجاهلاً كل ما يتضمنه هذا الفكر من تطرف وإرهاب وأجندات فوضوية تهدد أمن المجتمعات واستقرارها، ومتجاهلاً كذلك أن هذا الفكر نفسه هو نواة تلك الأفكار القاعدية والداعشية، فيعالج تطرفاً بتطرف آخر.

ومن صور التأطير الخاطئ في معركة الأفكار كذلك إدعاء بعض الباحثين أن مكافحة التطرف الديني يكمن بدعم من يسمون بالقرآنيين، ونشر أفكارهم في المجتمعات، مع جهل أو تجاهل بأن هذا الفكر نفسه قد أفرز تيارات إرهابية ضمن من سموا بالخوارج، وأنه فكر قائم على تكفير المسلمين ورميهم بالشرك بالله تعالى، كما هو واقع أصحابه في القديم والحديث.

إن التطرف بمختلف أنواعه وصوره طريق للإرهاب، ومكافحته تقتضي استراتيجيات صائبة في معركة الأفكار، تقوم على تعزيز الوسطية والاعتدال والعقائد الصافية النقية، والتأكيد على حفظ الأوطان، وصيانة مكتسباتها ومصالحها العليا.

Email