العرب.. و«كوكب اليابان»

ت + ت - الحجم الطبيعي

في قلب مركز إلقاء أول قنبلة ذرية في التاريخ، حضرت عند النصب التذكاري لضحايا القنبلة بميدان السلام في مدينة هيروشيما، مراسم الذكرى الخامسة والأربعين لتفجير أشد الأسلحة التي صنعها البشر فتكاً بالبشر.

كان ذلك في السادس من أغسطس عام 1990.

شعور غريب انتابني في المكان، وكأني أسمع أصداء صرخات آتية من مئات آلاف الضحايا، الذين قتلهم الانفجار الرهيب على الفور أو أحرقهم أحياء، أو أهلكتهم الموجة الإشعاعية في ظرف دقائق معدودة. وكانت تلك القنبلة ومن بعدها القنبلة الثانية التي ألقيت فوق نجازاكي قبل مضي ثلاثة أيام، هما دافع اليابان إلى الاستسلام للقوات الأمريكية، وانتهاء الحرب العالمية الثانية.

كنت بصحبة 3 من الزملاء الصحفيين منهم صحفيان عربيان، في زيارة مدتها 40 يوماً في دورة لتدارس التجربة اليابانية.

يومها.. سألنا عدداً من المسنين الذين نجوا من قنبلة هيروشيما، وأيضاً من الشباب الذين لم يعاصروها: هل يمكن لكم أن تنسوا هذه المأساة؟.. وكانت إجابتهم واحدة: نستطيع أن نغفر، لكننا أبداً لن ننسى..!

قلت لمسؤول كبير في الخارجية اليابانية: كيف استطعتم النهوض من بين الأموات؟.. فأشار إلى مبنى بلدية هيروشيما وكان الوحيد الذي بقيت منه بعض الحوائط والأعمدة واحتفظت به السلطات اليابانية بحالته كأثر لمأساة القنبلة الذرية، وقال: إن القنبلة قد تهدم المباني وتحرق الزرع وتقتل الناس، ثم أشار إلى رأسه وقال: لكنها لا تستطيع أن تهدم العقول..!

في تلك الزيارة الطويلة التي مضى عليها 32 عاماً، كان الشعور الغالب علي وزملائي، هو الانبهار ليس فقط بالتقدم العلمي، وإنما بجدية هؤلاء الناس في العمل، وتواضع أكبر الكبراء، والأدب المعروف عن هذا الشعب الذي يبدو كلما اقتربت منه أكثر، غامضاً أكثر وأكثر!

شيئاً فشيئاً اندمجنا مع بعض مرافقينا اليابانيين وتغلبت علينا روح المرح العربية، وروى أحدنا نكتة عربية شهيرة، تقول: إن يابانياً قال لعربي: هل تعلم أننا اخترعنا آلة تدخل فيها البقرة فتخرج من الجانب الآخر علب لحم محفوظ؟. فرد عليه العربي: وهل تعلم أنت أننا اخترعنا آلة تدخل فيها علب اللحم المحفوظ من جانب، فتخرج البقرة من الجانب الآخر؟!.

انتظرنا أن يبتسم أحد للنكتة، لكنهم أخذوا يهرشون رؤوسهم، وبعد فترة ضحكوا جميعاً..!

السبب أننا نسخر من الممكن لأننا نعتقد أنه مستحيل، بينما هم يفكرون في المستحيل فقد يجعلونه ممكناً..!

على مدار الأعوام التالية زرت اليابان أكثر من مرة، آخرها منذ 4 أعوام، وفي كل مرة أجد ما يبهرني من تقدم هائل علمياً واقتصادياً في هذا البلد الذي يكاد يكون معدوم الموارد الطبيعية.

الفرق بيننا وبينهم، هو التعليم.

90 % من سكان الدولة يحملون شهادة عليا جامعية أو فنية.

المدارس بسيطة في مبانيها، لكنها توفر للتلميذ وقتاً لممارسة الهواية، وتقدم له مناهج تحرض على التفكير والبحث، وتغرس فيه روح الفريق كأساس لنجاح الفرد والجماعة، وتعلمه أن الوطنية الحقيقية لا تعبر عنها الأناشيد، وإنما العمل بإخلاص وجدية وإتقان..!

الفجوة بيننا وبينهم نستطيع تضييقها حينما نكف عن وصفهم بأنهم يعيشون في «كوكب» آخر، وحينما نفكر في تحويل بعض مستحيلاتنا، وهي ممكنة، إلى حقائق..!

الخطوة الأولى لجسر الفجوة تبدأ بنهضة التعليم.

Email