الطريق نحو الحكمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في جلسة نسائية، حكت لنا إحدى الصديقات موقفاً طريفاً عن طفلها، حيث قالت: إنها اعتادت أن تقرأ وتحكي له يومياً قصصاً متنوعة فيها حكم وتحث جميعها على الجد والاجتهاد، وأنها كانت دوماً تذكر بأن الحكيم يقول كذا وكذا. وتضيف: طفلي ترك جميع القيم والمبادئ الجميلة، وجعل يلح علي بأنه يريد أن يصبح هو أيضاً حكيماً. غني عن القول أن الأم شرحت لطفلها بأنه يجب أن يكبر أكثر ويتعلم، ليصبح حكيماً، لكنه أصر أن يتقلد مقاليد الحكمة من الآن، ويريد اختصار السنوات لتحقيق هذه الغاية.

انتهى جمعنا النسوي، ولكن بقيت رغبة هذا الطفل تلح على عقلي، ويتبادر السؤال هل يمكننا أن نصبح فعلاً حكماء؟ يأخذ هذا السؤال جدية أكبر إذا علمنا بأن الحكمة صفة لا علاقة لها بالجينات الوراثية، بمعنى أنه لا يمكن أن تورث عن الأم أو الأب، بخلاف ما يدعيه البعض ويحاولون الترويج له. فقد وصلت الدراسات العلمية الموثقة بأن الحكمة تعتبر خبرات حياتية يمكن لكل إنسان اكتسابها بقليل من التعلم والتجربة والتأمل والتفكير ومراجعة الوقائع واستنتاج العبر منها، وذهب البعض لوضع معايير وأدوات تمكنك من الحصول على الحكمة، أو على الأقل تجعلك على طريق الحكماء، مثل: الانفتاح على كل جديد، وهذا يتطلب الحركة والتنويع وعدم الركون لتجارب يومية واحدة، وأيضاً عدم لوم النفس عندما تقع في الخطأ بل الاستفادة من هذه الأخطاء، ليس هذا وحسب بل عليك التفكير والتأمل في تجارب الآخرين ودراستها والتمعن في محتواها، وهذه العملية بحد ذاتها متعبة ومرهقة خاصة إذا علمنا أنها يفترض أن تكون سلوكاً يومياً، فمتابعة الناس ومراقبة حركاتهم وطرق حديثهم وتناولهم للمواضيع وكيفية تعاملهم مع بعضهم البعض جميعها جوانب جوهرية في شخصية الحكيم، ولا تنسى أن الحكماء قليلو الكلام كثيرو الصمت، ويقال بأن الحكماء لديهم شغف بالمعرفة لذا تجدهم في حالة عدم استقرار، فهم في تنقل مستمر، وعادة يذهبون لمواقع ويزورونها ولا يعودون لها، حيث يذهبون لمواقع أخرى فالتجديد وشغف الرؤية لمواقع جديدة لا حدود لها، وهذا يندرج حتى في المطاعم ومحال التسوق التي يزورونها حيث لا يحبون العودة لها مرة أخرى.

لكن في غمرة سعيك نحو الوصول لمصاف الحكماء لا تنسى شيئاً جوهرياً يتعلق بالتواصل مع الناس، فالحكماء يتمتعون بخصلة عظيمة تتعلق بمواصفات من يجلسون ويتحدثون معهم، فالجميع بالنسبة لهم مقبولون ويمكن الحديث معهم بعفوية فالطريق نحو الحكمة مازال طويلاً، لأننا نريد أن نزيل لبساً في عقول الكثيرين عن الحكماء بأنهم رجال متقدمون في العمر، منحنو الظهر تساعدهم عصى في الوقوف على أقدامهم، وهذه الصورة النمطية التي رسختها الأفلام السينمائية وبعض الرسوم التشكيلية لبعض اللوحات الفنية غير صحيحة. لأن الحكيم أياً كان امرأة أو رجل، يتمتع بقوة الشخصية فالمخاوف الاعتيادية التي قد تتلبس البعض منا يفترض أن لا يعاني منها الحكيم. يقال: بأن طريق الحكمة يمر بالانفتاح وتقبل الآخرين، لكن هذا الانفتاح ليس شعاراً بل جوهراً، حيث يفترض بالحكيم أن لا يحكم على الآخرين وفق أمور عابرة أو دون دلالات قوية وبراهين صارمة، رغم أنه ليس من مسؤولية الحكيم إصدار الأحكام، بل إنه متواضع وغير متعصب لرأيه، وهو يدرك بأن الجميع يخطئون بطريقة أو بأخرى، وبقي أن نعلم أن الحكماء بفطرتهم لديهم هوس ورغبة بمشاركة الآخرين معارفهم ومعلوماتهم، بكل عفوية، بل إن منح الآخرين النصيحة والتوجيه هي لب أهدافهم وأعظم سعادة لديهم، لأنهم دوماً يشعرون بأن لديهم رسالة وعلماً يفترض منحه للآخرين للاستفادة منه، فهل سمعتم بحكيم يقيم دورة تدريبية أو ورشة تعليمية ويأخذ عليها أجراً أو ثمناً؟ بقي أن نقول لذلك الطفل، رغم أن الطريق طويل أمامك لتكون حكيماً، لكنني أدعو المولى أن يرزقك الحكمة، حتى تكون قنديل ضوء للآخرين، فكم نحتاج في هذا الزمن لقناديل الحكمة.

Email