سرّ نجاح الإمارات في الإبداع والانفتاح

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل سنوات، كنت في زيارة للإمارات، برفقة وفد يترأسه رئيس جامعة الدراسات الأجنبية ببكين. وفي حفل الغداء الذي تفضّل معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، بإقامته لتكريم الوفد الصيني، قال رئيس الوفد، إنه انتهى توّاً من زيارة إلى ألمانيا قبل زيارة الإمارات، فوجد خلال اليومين الماضيين في الإمارات، أنها أجمل من ألمانيا. وسُرّ الشيخ نهيان بذلك قائلاً: كنّا نعتبر ألمانيا والدول الأوروبية قدوة لنا في كل شيء، فيسعدني أن أسمع منك هذه الشهادة الصينية، بأن الإمارات أجمل من ألمانيا. فقال رئيس الوفد، إنه لم يكن مجاملاً في كلامه، بل عبّر عن انطباعاته الحقيقية، حيث وجد أن الإمارات أجمل من كثير من الدول الأوروبية في نواحٍ عديدة: منها مظاهر التطور العمراني، ومستوى الرخاء والازدهار، وشعور المواطنين بالسعادة، والتناغم والوئام بين جميع المواطنين والمقيمين، بل حتى مشاهد الخضرة والنضرة، نعم، إن المدن الإماراتية، وخاصة أبوظبي، التي تكتسي الأشجار الوارفة والأعشاب السندسية، حافلة بما يُقرّ النواظر ويَسرّ الخواطر، ولا تقلّ خضرة وجمالاً عن أي عاصمة من العواصم الأوروبية! 

أثناء تلك الزيارة، كما في زيارات أخرى قمت بها للإمارات، مع زملائي الصينيين، كان السؤال الموجّه إليّ دائماً هو: ما سرّ نجاح الإمارات؟ وهو سؤال كنت أتأمل فيه كثيراً لإيجاد جواب له. اليوم، وبعد أن شاركت الشعب الإماراتي في الاحتفال باليوبيل الذهبي لتأسيس دولته، عبْر حضور حفلة مبدعة في منزل سعادة السفير الإماراتي في بكين، أو عبْر تقاسم مشاهد الاحتفال في حسابات التواصل الاجتماعي لأصدقائي الصينيين المقيمين في الإمارات، أظنني اهتديت إلى الجواب للسؤال المطروح آنفاً: إن سرّ نجاح الإمارات، يكمن في مزايا عديدة، وأهمّها ميزتا الإبداع والانفتاح، اللتان تشكلان الهوية الوطنية الإماراتية. 

الميزة الأولى، وهي الإبداع، تتبين بوضوح أمام ناظري كل من يتجول في ربوع الإمارات: فأبراجها العجيبة والمبهرة، تجعل الإمارات، ومدينة دبي خاصة، أكبر مختبر للفن المعماري الحديث في العالم، وتأتي كشهادات على روح الإبداع والابتكار، إضافة إلى سلامة الذوق الجمالي. ولكن ميزة الإبداع تتجسد قبل المظاهر الخارجية، في سلسلة من الاستراتيجيات والسياسات الحكيمة والرائدة، منها أولوية بناء الإنسان، باعتبارها محوراً للتنمية الشاملة، والسعي وراء التنمية المتناغمة للاقتصاد والمجتمع والبيئة، والاهتمام بدور المرأة، والنهوض بمكانتها، وتبني آليات مبتكرة، هي الأولى من نوعها عالمياً، لتنفيذ هذه الاستراتيجيات، كتأسيس وزارة التسامح، ووزارة السعادة، ووزارة اللامستحيل... وإقامة أول معرض إكسبو العالمي في منطقة الشرق الأوسط، وإطلاق أول مشروع عربي لاستكشاف المريخ... إضافة إلى برامج ومشاريع أسطورية كثيرة، ما كانت تأتي إلى حيز الوجود، بدون روح الإبداع والابتكار. 

أما الميزة الثانية، وهي الانفتاح، فهي ميزة لا تفوت أي زائر للإمارات، عندما يتمشى في شوارعها، ويجد الموظفين والتجار والسواح القادمين من كل أنحاء العالم، ومنهم حوالي مئتي ألف صيني مقيم في الإمارات، يشتغلون في القطاعات التجارية أو الخدمية أو التعليمية، بل حتى في الدوائر الحكومية. وقد تكون خير شهادة على انفتاح الإمارات على العالم، كلمة السيد رين تشينغ في (Ren Zhengfei) مدير عام شركة هواوي الصينية العملاقة، في الاجتماع السنوي لتوزيع الجوائز على موظفي الشركة في عام 2016: «تتميز ثقافة دبي خاصة، والإمارات عامة، بحرصها على بناء مجتمع منفتح، والاستفادة من عقول وموارد العالم كله، لخلق أجمل مدينة في العالم. قد تنضب الموارد الطبيعية في يوم ما، أما الثقافة، أعني الثقافة المنفتحة، فهي قابلة للتجدد دائماً. فلماذا لا نتعلم من دبي، ومن الإمارات، في سعينا لبناء هواوي القوية؟». 

وفي رأيي، إن هاتين الميزتين، تحملان دلالات كثيرة، يمكن أن تكونا مصدر إلهامات للعرب وللعالم، سياسياً واقتصادياً وإدارياً واجتماعياً، بل يمكن أن تكونا مصدر الإلهام حضارياً أيضاً. إذ إن هاتين الميزتين ستساهمان في إعادة تحديد صفات الحضارة العربية الإسلامية، التي يتوهم البعض أنها مقترنة دائماً بالجمود والانغلاق. لذا، تكمن أهمية التجربة الإماراتية في أنها أعادت إلى أذهاننا، حقيقة نسيها أو تناساها كثير من الناس، في خارج العالم الإسلامي، كما في داخله أيضاً، وهي أن الإبداع والانفتاح، كانتا سمتين بارزتين للحضارة العربية الإسلامية، منذ نشأتها، حتى أوج ازدهارها. فإن النبي محمداً، كان أول وأعظم مبدع في تاريخ الإسلام، لأنه هو الذي قام بنشر الإسلام، دين السلام والمحبة والإنسانية، في مجتمع كان يسوده الجهل والعصبية والتقاتل، ويتشبّث أهلُه بالتفكير التقليدي الجامد، كما قال عنهم الله تعالى: «قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون» (المائدة: 104). وعبْر نشر رسالة الإسلام، أسّس النبي محمد لمرحلة جديدة كل الجدة في تاريخ العرب وتاريخ البشرية. كما أن النبي، هو الذي قال في الحديث النبوي الصحيح: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة مَن يجدّد لها دينها»، ليذكّر أمة الإسلام، بأهمية التجدّد والإبداع ومواكبة العصر. وأما المثل الشهير «اطلب العلم ولو في الصين»، فهو خير دليل على انفتاح المسلم على الآخر المختلف، من أجل طلب العلم والحق. ونجد صداه يتردد في مقولة الكِندي، الملقّب بفيلسوف العرب، الذي كتب في خطابه إلى الخليفة المعتصم بالله، في الفلسفة الأولى: «ينبغي لنا ألّا نستحيي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية عنا، والأمم المباينة لنا، فإنه لا شيء أَولى بطالب الحق من الحق».

أما تاريخ الحضارة الإسلامية، فكان حافلاً بشخصيات وروايات تجسد ميزتي الإبداع والانفتاح، فما كانت تتمكن هذه الحضارة من تحقيق كل إنجازاتها العظيمة، إلا بفضل كبار المبدعين الخلاّقين في كافة فروع العلوم الطبيعية والاجتماعية. كما عاش وانتعش في الدولة الإسلامية، العلماء والفلاسفة من المسيحيين واليهود، وتولّى بعضهم مناصب كبيرة في الدولة، وصلت إلى رئاسة الوزراء في الأندلس.

هكذا، تعيد التجربة الإماراتية إلى إدراكنا، درساً تاريخياً هاماً، مفاده أن أزهى عصور المسلمين، كانت عندما أبدعوا وانفتحوا على العالم، بينما كان تراجعهم مقترناً بجمود وانغلاق وقعوا فيهما خطأ، أو فُرضا عليهم قسراً، إبان الحقب الاستعمارية. إن التجربة الإماراتية تجربة ناجحة لإحياء واستئناف المزايا العظيمة في الإسلام، التي غدت منسية مهمَلة، منذ انقضاء العصور الذهبية للعرب والمسلمين.

أخيراً، إن الإبداع والانفتاح، كانا من أهم الصفات التي تتحلى بها الحضارة الصينية أيضاً عبر تاريخها المديد، منهما استمدت قدرتها على الاستمرار والبقاء، بل الازدهار والارتقاء. وفيهما يكمن سرّ نجاح التجربة الصينية، منذ انطلاق مسيرة الإصلاح والانفتاح، في أواخر سبعينيات القرن الماضي. لذا، إن الصداقة الصينية الإماراتية، لا تبنى على أساس المصالح المشتركة فحسب، بل على أساس الرؤية الحضارية والتجربة التنموية المشتركة أيضاً. 


* مدير مركز الشيخ زايد للغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين

Email