المعارك الكبرى والصغرى

ت + ت - الحجم الطبيعي

من أكبر المشكلات التي تواجهنا افتقارنا إلى حسن تقدير حجم المعارك التي ينبغي أن نخوضها. في بيئة العمل مثلاً، تجد أناساً تفرغوا للتصدي لكل شاردة وواردة تصدر ممن حولهم، يحسبون كل همسة أو ملاحظة نابعة من دافع انتقامي. وينسى هؤلاء أنهم استبعدوا قائمة من النوايا الحسنة، فهناك من يشعل معركة لأنه لم يؤخذ برأيه في موضوع ما، أو أنه لم يدع إلى الاجتماع. ولماذا ذهب فلان في رحلة عمل أو ورشة تدريبية ولم يقع عليّ الاختيار. ألم يسأل نفسه: ربما كانت المشكلة فيه، فهو قد لا يراعي آداب الاجتماعات، وربما لا يكترث لوابل الانتقادات التي تنبهه من تداعيات تماديه في تصرفاته مع الآخرين.

ومن المعارك الصغرى التي لا تستحق عناء المواجهة ما له علاقة بالآراء، فإذا كان المدير مصراً إصراراً عجيباً على لون معين يصبغ به رواق العمل أو يشتري كراسي أو مكاتب محددة، وقد بينا وجهة نظرنا المغايرة ولم يقتنع، فلماذا نناصبه العداء أو المواجهة في قضية تافهة؟! ولو أصرت الإدارة العليا على توظيف أحد بدافع الواسطة القوية وبذلنا كل جهدنا لإثنائهم عن الرأي ولم نفلح، فلماذا نجعلها معركة حياة أو موت بشأن موظف شاب قد يتعلم منا الكثير ثم يصبح ذا قيمة مضافة؟!

من المعارك الصغيرة التي تستنزف طاقتنا الشكليات البعيدة عن صلب عملنا، فعندما يتصارع مديران، ثم نتطفل على تلك المواجهة فإننا قد نزيد الطين بلة، ففكرة الاصطفاف في العمل ليست خياراً صحياً. ثم من دعانا أصلاً للدخول كطرف. كان في وسعنا تأجيل هذه المواجهة لمعارك أكبر تقدمنا في مسارنا الوظيفي. هنا لا نتحدث عن «إصلاح ذات البين»، وإنما نقصد ندية أو حدية المواجهات بين المسؤولين التي سرعان ما تنتهي، لكن من يتورط فيها هم أولئك الذين تدخلوا في ما لا يعنيهم.

ولذا كان اختيار الخوض في المعارك الكبرى أفضل بكثير من إهدار سمعتنا أو طاقتنا في معارك جانبية تافهة. فمن المعارك الكبرى مثلاً الوقوف بجدية وحزم تجاه أي محاولات لتطفيش الكفاءات في إداراتنا، أو أي مساعٍ «غير حميدة» لوضع العصا في دولاب فرق العمل أو المتفانين في أقسامنا. ولن يستغرب أحد حينما يعد مسألة ترقيته المستحقة، التي تأخرت كثيراً، هي معركة كبرى بالنسبة له، وذلك لسبب بسيط، وهو أن في بعض بيئات العمل يدفع ثمن تأخر ترقيته ذلك الذي يسكت عن تجاهل مطالبه المشروعة، وهذا واقع أليم، ولذلك قيل: «لن يضيع حق كان وراءه مطالب». وهناك من لا يتقبل التنازل عن الجودة أو يبذل قصارى جهة ليظفر بميزانية أكبر، لإيمانه بأن الجودة رديف السمعة الحسنة، وأن توافر المال المطلوب طوال السنة يمكّن المسؤولين من تحقيق إنجازات أكبر يشار إليها.

ومن المعارك الكبرى الضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه الطعن في شرفنا أو نزاهتنا، فمن البشر من يحاول أن ينال تدريجياً ممن حوله لمآرب شخصية أو لحقد دفين، اعتقاداً منه أنهم يعطلون تقدمه أو ترقيته. ومن الناس من يتراجع عن المواجهة فور رؤية مخالب خصمه.

وحتى على صعيد البلدان تجد دولاً تخوض معارك بالوكالة عبر ميليشيات أو فصائل تخريبية، كان الأولى أن تنشغل بشؤونها الداخلية ليعم السلام ويتحقق التقدم على الصعيد الوطني.

إذن فكرة المعارك لن تتوقف، غير أن ما ينبغي أن يعاد النظر فيه هو إهدار أوقاتنا في معارك هامشية في العمل وخارجه لا تسمن ولا تغني من جوع.

 

كاتب كويتي متخصص في الإدارة

Email