جبهة «ولكن» المخادعة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تشبه حالة المنصف المرزوقي الرئيس التونسي الأسبق، حالات مماثلة عهدناها في بلادنا العربية، ونستطيع ببساطة التعرف عليها في أي نقاش يدور الآن حول مستقبل المنطقة العربية. شخص يبادر متطوعاً دون أن يسأله أحد بالقول: أنا مش إخوان.. ولكن، فيظن أنه بذلك يحتمي بغطاء يحجب ذيليته للجماعة. لكن سرعان ما ينفضح أمره، حين يستنطق الأحداث ويفسرها ويبررها، بما يتماشى مع مصالح الجماعة، ويثبت أقدامها، ويبرر عنفها وإرهابها.

لعبت جبهة «ولكن» تلك، دوراً مخرباً في التاريخ العربي المعاصر، وشكلت دون وجه حق، قيادة ما سمي بثورات الربيع العربي، واتخذت منها دول الغرب الأمريكي والأوروبي، مطية لتنفيذ مخططها الرامي لإعادة تشكيل خريطة المنطقة العربية وبسط النفوذ عليها، بممارسة كل أشكال الضغوط، لتسليم حكمها لجماعة الإخوان. وظل قادة تلك الجبهة ضيوفاً مرحباً بهم في ساحات البيت الأبيض والعواصم الأوروبية، يحظون بالدعم المالي والأدبي والدعائي، بزعم المساعدة على نشر النموذج الغربي للديمقراطية.

وبين هؤلاء «المنصف المرزوقي»، الذي أصدر القضاء التونسي قبل أيام مذكرة اعتقال دولية في حقه، عقب أن تفاخر علناً أمام أجهزة الإعلام، بدوره في تأجيل الدورة الجديدة للقمة الفرانكفونية، التي كان مقرراً عقدها في جزيرة جربة التونسية، نهاية نوفمبر الجاري. وجاءت المذكرة بعد أن تم سحب جواز السفر الدبلوماسي منه، بسبب الاتهامات التي وجهت له باستجداء الخارج لضرب المصالح التونسية!

في مصر ذاق المصريون الهول من عناصر تلك الجبهة. جماعات من القطاع المدني في الجامعات والمجتمع الأهلي، والمنظمات الحقوقية والبحثية، والصحف والمؤسسات التنفيذية، والشخصيات العامة، اختارت خوض معارك جماعة الإخوان، في الداخل والخارج، وأصبحوا الوردة التي يضعها تنظيم الإخوان على ملابسه، ليتباهى بها أمام المجتمعين المحلي والدولي، ليثبت لهما أنها جماعة مدنية ذات مرجعية دينية معتدلة، وأنها تحظى بدعم القطاعات المدنية في المجتمع، وهي فضلاً عن ذلك، باتت الجهة الوحيدة المنظمة القادرة على ضبط الأمن والاستقرار. وكان أعضاء تلك الجبهة – ولايزالون - يبدأون كل حوار سياسي وينهونه بالقول «أحنا مش إخوان.. ولكن».

ولعب هذا الفريق الانتهازي، المتقلب في الأدوار والمواقف، الذي يرطن بالحرية ويتشدق بالدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية وهو يتخفى وراء مصالح صغيرة، دوراً حاسماً في صعود جماعة الإخوان لسدة الرئاسة في مصر عام 2012، ليبدأ، تنفيذ مخطط هدم مؤسسات الدولة الوطنية، بجبروت وعزم، قتلة محترفين!

شيء من ذلك حدث في تونس. دعمت حركة النهضة الإخوانية المنصف المرزوقى رئيساً مؤقتاً للجمهورية في الفترة الانتقالية من 2011 حتى 2014، لم يكن خلالها سوى ألعوبة في يد إخوان النهضة. وبرغم المعارضة الشعبية لقراره، فقد فتح خلال رئاسته، أبواب عودة الإرهابيين الذين حاربوا مع تنظيم داعش، إلى البلاد، ودعم غيرها من السياسات التي قادت تونس إلى أزمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة، وامتلك الجرأة لكي يصف الشعب التونسي الذي عارضه بالكذب والنفاق والانحلال الأخلاقي. المشترك بين النهضة وبينه، أن كليهما هبط على حركة التغيير التونسية من منفى في لندن وباريس، طوال فترة حكم «بن علي» الذي امتد نحو ربع قرن، ليقطفا ثمار ثورة لم يشاركا في أحداثها، وليحكما بلداً لم يعودا يعرفانه. وكلاهما لا يؤمن بالدولة الوطنية، ومؤسساتها الأمنية والقضائية والعسكرية، لأنها دعائم الاستقرار، الذي تتعرقل في ظله المصالح المشتركة للطرفين معاً، وتحرمهما من الغنائم التي حصداها على حساب الشعب التونسى، أو بالأحرى في مواجهته.

والمتابع لأحاديث المرزوقي الإعلامية، مندداً بما زعم أنه حكم استبدادي، وانقلاب قيس سعيد على الدستور والديمقراطية، وداعياً الدول الغربية للتدخل لمواجهته، يدرك بسهولة انتماءه لجبهة «ولكن» التي تريد أن تقنعنا أن ما كان يحدث في تونس خلال عشر سنوات من الفوضى الشاملة، هو الحكم الديمقراطي السليم، والحياة الدستورية الحقة الموصوفة في الكتاب!

كل قراءة موضوعية ومنصفة لحركة التصحيح التي يقودها الرئيس قيس سعيد سوف تدرك أنها حمت تونس من حرب أهلية، كادت أن تندلع. وأن دعوات التظاهر التي تقودها حركة النهضة وأنصارها في جبهة «ولكن» ليست دفاعاً عن الديمقراطية والدستور، بل هي تستهدف إعادة برلمان «الغنوشي» المجمد، وحكومته الفاشلة المقالة، لتتوقف معها إجراءات مكافحة الفساد، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس من الكفاءة لا التمكين. ذلك فخ ملغوم، حمى الله تونس وشعبها الواعي الفطن من الانجرار نحوه.

* رئيس تحرير «الأهالي» المصرية

Email