موت الأرانب البيضاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

- ألا تريد أن تحدثني؟

سألت نورا. كانت متلهفة لأن تريان كان يتحاشى دائماً التحدث إليها عن روايته. وكان في كل مرة يتحاشى الإجابة عن سؤالها. أما الآن، فإنه لم يستطع رفض طلبها. قال:

- لقد قمت مرة بجولة بحرية في جوف غواصة، ومكثت تحت الماء حوالي ألف ساعة. إن في الغواصات جهازاً خاصاً، ينبئ بالوقت المعين اللازم لتجديد الهواء. أما من قبل، فإن الغواصات لم تكن تعرف ذلك الجهاز بعد. لذلك فقد كان البحارة يصحبون معهم عدداً من الأرانب البيضاء إلى جوف الغواصة. فإذا تسمم الهواء ماتت الأرانب، ومن ذلك يعرف البحارة أن لديهم خمس ساعات يحيون خلالها قبل أن يسقطوا بدورهم فريسة للاختناق. فكان على قائد الغواصة في تلك اللحظة، أن يتخذ القرار الحاسم، إما الصعود إلى سطح الماء ببذل جهد اليائسين، وإما البقاء في الأعماق والموت مع البحارة كلهم. وقد جرت العادة، بمؤاثرة القرار الثاني، على أن يقتل البحارة بعضهم بعضاً بطلقات المسدس.

في الغواصة التي أبحرت فيها، لم تكن هناك أرانب بيضاء، بل أجهزة تقوم مقامها. وقد لاحظ القبطان، أنني أتحسس نقص مولّد الحموضة، فكان يسخر من حساسيتي، لكنه لم يعد يركن إلى أجهزة الغواصة، لأنني دائماً كنت أدله على الوقت الذي ينقص فيه الهواء، يكفيه أن يلقي عليّ نظرة واحدة، ثم يستشير آلته وأجهزته، فيجد أن دقتي مدهشة.

إنها موهبة نمتلكها نحن؛ الأرانب البيضاء، وهي أننا نشعر بدنو الخطر قبل أن يشعر به البشر بست ساعات، ونحس أن الجو بات لا يصلح للتنفس. إنني أشعر منذ زمن بمثل ذلك الشعور الذي كنت أعلن عنه عندما كنت على ظهر الغواصة. إن الجو قد بات خانقاً.

سألته نورا:

- أي جو تقصد؟

- الجو الذي يعيش فيه المجتمع الحاضر. إن الكائن البشري لن يستطيع احتماله.

كان هذا هو موضوع رواية تريان كوروغا، التي يكتبها داخل رواية الكاتب الروماني قسطنطين فيرجيل جورجيو «الساعة الخامسة والعشرون». الرواية صدرت عام 1949 تحت هذا الاسم الذي كان لافتاً للأنظار وقتها. وقد احتلت الرواية مكانة متقدمة بين الروايات التي تجسد معاناة البشر أثناء الحروب، ووضعها البعض في مصاف رواية الروائي الإنجليزي جورج أورويل الشهيرة «1984».

كان تريان كوروغا قد وضع في روايته الطريقة التي يموت بها رجال هذه الأرض الذين يحيون في عذاب مريع وقلق قاتل، تخنقهم الأجواء غير الصالحة للحياة. ولما كان لا يستطيع أخذ كل الكائنات الحية أبطالاً لقصته، فقد انتخب عشرة أشخاص، يعرفهم أكثر من أي شخص سواهم.

- وهل سيموت هؤلاء الأشخاص العشرة؟

سألت نورا، فأجاب تريان:

- بعد موت الأرانب البيضاء. لن يستطيع بنو الإنسان الحياة أكثر من ست ساعات على الأكثر. إن روايتي تصف هذه الساعات الست في حياة أفضل أصدقائي.

كان أول هؤلاء الأشخاص العشرة هو إيوهان موريتز، بطل رواية جورجيو الثاني، الذي سلبوا منه حريته وزوجته وأولاده وبيته، وأهين وضُرِب وعُذِّب. كان الشاب إيوهان موريتز يحلم بالهجرة إلى الولايات المتحدة، لكنه قضى 13 عاماً متنقلاً بين 38 معتقَلاً، ومن هوية إلى هوية، فهو مرة روماني أرثوذكسي، ومرة روماني يهودي، ومرة مجري مسيحي، ومرة ألماني جرماني. هويات لا دخل له في ارتدائها، لأن من كان يلبسه إياها هم السجانون الذين لا سبيل إلى إقناعهم بهويته الحقيقية، لأنهم لا يسمعون إلا أنفسهم، وأوامر رؤسائهم.

تقع أحداث الرواية أثناء الحرب العالمية الثانية، لكنها تصلح للتعبير عن كل المآسي التي يتعرض لها الإنسان الفرد في ظل سيطرة العقلية المتحكمة في مجرى الأحداث والقرار، أيّاً كان شكل النظام الذي يحكم، شمولياً كان أو ديمقراطياً.

سألت نورا بقلق:

- وهل ستتشابه كل الفصول وتتفق في نهايتها مع الفصل الأول؟ مع مصير إيوهان موريتز؟ أليس في كل قصتك موقف مفرح واحد؟ نهاية سعيدة؟

أجاب تريان معقباً:

- كلا، ليس فيها نهايات سعيدة. بعد موت الأرانب البيضاء، لا يمكن أن تكون النهايات السعيدة ممكنة. إن موتها يدل على أن ما بقي في مصير الآخرين من عمر، لا يتجاوز الساعات المحدودة.

«الساعة الخامسة والعشرون هي تلك اللحظة التي تكون فيها كل محاولة للإنقاذ عديمة الجدوى. إنها ليست الساعة الأخيرة، بل هي الساعة ما بعد الأخيرة». هكذا يشرح تريان كوروغا عنوان روايته التي يكتبها داخل رواية قسطنطين فيرجيل جورجيو «الساعة الخامسة والعشرون».

* كاتب وإعلامي إماراتي

Email