أصداء الحرب الباردة بين الغرب وروسيا تُدوّي بقوة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كل الأجواء في منطقتي «بحر البلطيق» و«البحر الأسود» تصنع كواليس مثالية لتصوير فيلم حركة بعنوان «الحرب الباردة».

أزمة لاجئين سقط فيها قتلى على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا. تراشق حاد بالاتهامات المتبادلة بين قادة البلدين حول المتسبب في الأزمة، وكل بلد له داعم قوي.

فالأول تدعمه روسيا، بينما يحظى الثاني بدعم الغرب ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية، الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلنطي (ناتو). تحركات من روسيا التي لا أحد يعلم على وجه التحديد نواياها المُبهمة تضمنت نشر قاذفات قادرة على حمل رؤوس نووية وإجراء تدريبات عسكرية لفرق المظليين التابعين لها في المنطقتين المُشار إليهما أعلاه، واللتين تموجان بالتوتر بينها وبين الغرب.

في منطقة تتداعى فيها ذكريات الانقسامات بين الشرق والغرب وتستحضر معها جروحاً عميقة، فإن المواجهة الحالية بين ألكسندر لوكاشينكو، رئيس بيلاروسيا، وداعمه القوي، فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي، من جانب، وبولندا، التي يدعمها الغرب، من جانب آخر، تعزز المخاوف من إمكانية اندلاع نزاع عسكري بين الجانبين، حتى وإن كان بعض، أو غالبية، المحللين السياسيين الغربيين.

لا يرجحون هذه الاحتمالية، إلا أنها تبقى حاضرة على الطاولة، بل وقابلة بقوة للتحول إلى حقيقة مفزعة، إذا فقد أحد الطرفين أعصابه في لحظة تهور.

ونقلت وكالة الأنباء الرسمية في بيلاروسيا عن وزير الدفاع تصريحات أدلى بها يوم الجمعة الماضي، وقال فيها: «نستشف انطباعاً مفاده أن جيراننا الغربيين، وعلى وجه التحديد بولندا، مستعدون لبدء نزاع».

وبدورهم، لجأ المسؤولون البولنديون إلى لهجة حادة يصفون فيها وجود بضعة آلاف من طالبي اللجوء الذين ينتمون إلى بلدان شرق أوسطية على حدود بولندا مع بيلاروسيا بأنها اعتداء على الأمة والسيادة البولندية. وتقول بولندا إنها أرسلت 17.000 من أفراد جيشها، بين ضابط وجندي إلى الحدود لمنع طالبي اللجوء من عبورها.

وفي يوم الجمعة أيضاً، أجرت روسيا مناورات عسكرية خاطفة مع بيلاروسيا، وأسقطت مظليين على الحدود بين الأخيرة وبولندا. وأفادت وزارة الدفاع الروسية بأن اثنين من هؤلاء المظليين تعرضا لإصابات خطيرة.

الاتحاد الأوروبي في حالة غضب شديد من لوكاشينكو، حيث يتبنى رأي بولندا و«ناتو» والذي مفاده أن تدفق طالبي اللجوء على الحدود البولندية لم يكن قدرياً، وإنما بتخطيط متعمد من جانب لوكاشينكو وبتوجيه من بوتين لاختلاق المشكلات مع بولندا، وبالتبعية مع الغرب.

وبينما يبدو عام 2021 بعيداً للغاية من وجهة النظر الزمنية عن الحقبة التي عرفها التاريخ باسم «الحرب الباردة» بين المعسكرين الغربي والشرقي.

والتي انتهت رسمياً منذ ثلاثة عقود، وتحديداً في عام 1990 عندما انهار الاتحاد السوفييتي السابق وتهدّم سور برلين، إلا أن ثمة حقائق جيوسياسية قائمة على أرض الواقع في مناطق التماس بين الغرب ونطاق ما تعتبره روسيا فضاءً لنفوذها، تجعل هذه المناطق شديدة الهشاشة على النحو الذي يؤهلها لأن تكون بؤر مواجهات مشتعلة بامتياز بين الطرفين.

تُعد الخلفية الجيوسياسية شديدة الأهمية بمكان في فهم الأزمة الراهنة، ذلك أنها تتمثل في خط حدودي يفصل بين بولندا من جهة وبيلاروسيا من جهة أخرى، وهو خط لطالما اعتبره «ناتو» ضمن أكثر خطوطه ضعفاً في حالة اندلاع أي عدوان روسي.

يُشكٍل النطاق البرٍي الذي يبلغ عرضه 64 ميلاً ويُعرف باسم «ممر سوالكي» الحد الفاصل بين بولندا وليتوانيا، وهو أيضاً الحد البري الوحيد بين دول «بحر البلطيق» الثلاث، وهي ليتوانيا، لاتفيا واستونيا، من جانب، وحلفائها من جانب آخر. وينحصر هذا الخط الحدودي الضيق فيما يشبه الشطيرة بين الجيب الروسي الذي يحظى بتسليح كثيف والمعروف باسم «كالينينغراد» و«بيلاروسيا»، طفلة موسكو المُدللة.

وإذا علمنا أن ليتوانيا، لاتفيا واستونيا جميعها أعضاء في «ناتو»، وفي الاتحاد الأوروبي أيضاً، وإذا علمنا أن اتفاقية تأسيس «ناتو» تنص على اعتبار أي هجوم ضد أي دولة عضو بمثابة هجوم ضد الحلف ذاته. وبالتالي، فهو يقتضي الرد، لأدركنا إلى أي حد يستحق هذا الخط الحدودي عن جدارة صفة «هش».

تظل احتمالية الحرب البريّة بين الغرب وروسيا غير مُرجحّة. ولكن على الجانب الآخر تظل حقيقة مفادها أنه منذ أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم إليها في عام 2014.

وبدأت منذ ذلك الحين وحتى الآن في دعم المقاتلين الانفصاليين في شرق أوكرانيا، فإن دول شرق أوروبا تشعر بالضعف على نحو متزايد. قد يقتضي المنطق استبعاد احتمالية النزاعات المُسلحة، لكن المنطق نفسه يُردد أصداء الحرب الباردة وبأصوات مُدوية في مناطق التماس بين الطرفين.

* مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية في مدينة «مونتريال» الكندية

- ترجمة بتصرف: سيد صالح

 

Email