ليبيا.. من الساحة إلى الدولة

ت + ت - الحجم الطبيعي

الشعب الليبي في اختبار الإرادة، أسابيع قليلة تفصلنا عن موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، المقرر إجراؤها في الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل، استثمار حالة الزخم العالمي التي صنعها مؤتمر باريس حول ليبيا فرصة فاصلة. الاصطفاف الليبي خلف هذا الاستحقاق واجب وطني، لكل من يريد تمزيق صفحات الفوضى والتخريب، ورسالة مفادها الوصول إلى ليبيا الجديدة.

قالت باريس كلمتها، في مشهد نادر أن تتوحد فيه الإرادة العالمية حول الحل في ليبيا، ومن قبلها صاغ إعلان القاهرة يوم السادس من يونيو عام 2020 خارطة طريق، كانت بمثابة البوصلة التي سارت عليها جميع التحركات الدولية تجاه القضية الليبية، بل كانت مفتاح أبواب الحل، وفق رؤية عميقة، وبعيدة النظر، ثبت مع الوقت صحتها ومنطقها.

وذلك عبر بنودها، سواء المتعلقة بالحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي الليبية، أو بالعمل على إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية، أو بتوحيد المؤسسات العسكرية، واضطلاع الجيش الوطني الليبي بالقيام بدوره في مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة، أو بتأمين المجال الجوي والبحري والبري، أو بالتزام كل الأطراف بوقف إطلاق النار، والعمل على استعادة الدولة الليبية لمؤسساتها الوطنية، مع تحديد الآلية الوطنية الليبية الملائمة، لإحياء المسار السياسي برعاية الأمم المتحدة.

هذه المسارات التي تضمنها إعلان القاهرة، هي نفسها المسارات التي تضمنها البيان الختامي لمؤتمر باريس حول ليبيا، جميعها يصب في الصالح العام للدولة الليبية وشعبها، ومن ثم، فإن البناء عليها لم يعد أمراً يحتمل رفاهية المماطلة، أو الصمت، أو لغة الحياد السياسي.

القفز بليبيا خطوة إلى الأمام بات ضرورةً لا تقبل القسمة على اثنين، في هذا التوقيت الصعب. الحفاظ على الأمن القومي الليبي يعني بالضرورة الحفاظ على الأمن القومي بالمنطقة والإقليم، موقعها الجيوسياسي قلدها سلطة منح، أو سلب الاستقرار لدول الجوار وأوروبا وإفريقيا، استمرار حالة السيولة في ليبيا تكبد الجميع فواتير باهظة.

ثمة مَن له مصلحة في عدم عودة ليبيا الدولة، واستمرار مشاهد الانقسام والاختلاف، هناك مكونات وميليشيات وجماعات مسلحة، تبذل قصارى جهدها لقطع الطريق أمام الوصول إلى الانتخابات، المخلصون للمستقبل الليبي ينتابهم قلق من تكرار سيناريو التشكيك في نتائج انتخابات عام 2014، جماعة الإخوان الإرهابية تعرف جيداً أنها تعيش موسم الخريف في شمال إفريقيا، بعد أن تم عزلها في مصر، ولفظها الشعب التونسي، ومنحتها صناديق الاقتراع المغربية أختام المغادرة.

تهاوت المساحات من تحت الجماعة الإرهابية، تحاول الآن الإمساك بورقتها الأخيرة في ليبيا، تعقد اجتماعات سرية لوضع سيناريوهات التخريب، وإفشال الانتخابات، وشد ليبيا إلى الوراء.

حذر مؤتمر باريس، بشكل قاطع، من أي محاولات لتقويض التقدم في ليبيا، مؤكداً في أحد بنود بيانه الختامي: (أن الأفراد أو الكيانات داخل ليبيا أو خارجها التي قد تحاول أن تعرقل العملية الانتخابية، وعملية الانتقال السياسي، أو تقوضهما أو تتلاعب بهما أو تزورهما، ستخضع للمساءلة، وقد تدرج في قائمة لجنة الجزاءات التابعة للأمم المتحدة، عملاً بالقرار 2571 الصادر عن مجلس الأمن في عام 2021).

إذاً نحن أمام موقف عالمي، يعكس إرادة وإصراراً على سبل الحل في ليبيا. ربما تنوعت رسائل مؤتمر باريس لأسباب، وحسابات عديدة، لكن لا شك أنه خلق حالة زخم دولي كبير، سيلقي بنتائجه الإيجابية في المشهد السياسي الليبي، ارتديت نظارة مكبرة لقراءة تفاصيل مؤتمر باريس حول ليبيا، بعض الملاحظات استدعتني للتوقف أمامها، يأتي في مقدمتها ما يلي:

أولاً: إن هناك اهتماماً فرنسياً كبيراً جداً بدعوة مصر والرئيس عبد الفتاح السيسي، الأمر الذي يعكس متانة وعمق العلاقة بين الدولتين، ويؤكد ثقة باريس في القاهرة وأهمية دورها الحيوي والمحوري في المنطقة، خاصة في الملف الليبي.

ثانياً: من زاوية توقيت انعقاد المؤتمر، فهو يأتي قبل أسابيع قليلة من إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، المقرر إجراؤها يوم الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل، وذلك من شأنه صناعة حالة زخم سياسي وشعبي كبير لدعم العملية الانتخابية، وقطع الطريق أمام كل الفصائل والمكونات التي تسعى إلى عرقلة الانتخابات أو الالتفاف على نتائجها.

ثالثاً: من الناحية الجغرافية، فإن دلالة عقد المؤتمر في أوروبا، تعني أهمية تحقيق التهدئة والاستقرار في ليبيا، لما تمتلكه من سلطة جغرافية، تنعكس سلباً أو إيجاباً على الأوضاع في أوروبا.

رابعاً: حضور نائبة الرئيس الأمريكي كمالا هاريس، وهو أرفع تمثيل أمريكي تجاه القضية الليبية، يعكس أن هناك إرادة أمريكية جديدة، تدفع نحو تحقيق السلام والاستقرار في ليبيا.

خامساً: إن الرئاسة الثلاثية الفرنسية - الإيطالية - الألمانية للمؤتمر رسالة واضحة وقوية، بأن الأوروبيين باتوا أكثر وحدة، فيما يتعلق بموقفهم من ضرورة الحل في ليبيا، ويؤكد توافق أوروبي مع رؤية دول الجوار، وغالبية الشعب الليبي، بضرورة إخراج الإرهابيين والمرتزقة من طرابلس الغرب.

سادساً: أرى أن العالم الآن يلتف حول مسارات الحل، والوصول إلى ليبيا الجديدة، وأن الأجواء مهيأة، وباتت المهمة الكبرى تقع على عاتق الليبيين أنفسهم، الاختبار صعب، لكن النجاح فيه ليس مستحيلاً، على الشعب الليبي استثمار هذه الفرصة، والاصطفاف بكل قوة، وإرادة خلف هذا الاستحقاق الذي من شأنه الانتقال من (ليبيا الساحة إلى ليبيا الدولة).

*رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي

 

Email