قمة تفاصيل الحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤشرات التغيير واضحة، وأمارات الوعي ساطعة. وأصبح واقع اقتصار الاهتمام على القمم السياسية الخالصة، واتفاقات المال والأعمال والتجارة الرافعة شعار «البزنس والأرباح»، دون النظر إلى الآثار والعواقب، واقعاً ينتمي للماضي. حتى التمحور والتمركز على الشريط الخبري الأحمر الراكض أسفل الشاشات، حيث عداد قتلى صراع مسلح هنا، وإصابات حرب أهلية هناك، ونزوح ولجوء مرتبطين بالصراع على السلطة هنا وهناك، باتا يتسعان لعدادات أخرى، وإصابات مختلفة، ونزوحات من نوع مغاير.

غيرت «قمة المناخ» المنعقدة حالياً في غلاسكو، الصورة النمطية المرتبطة بهموم واهتمامات المواطنين. يبدو أن كثيرين أدركوا أن القمة، التي ما زالت فعالياتها منعقدة في إسكتلندا، هي قمة تفاصيل حياة كل منهم. ولم لا، وقد تأثر كل منا بشكل أو بآخر، بقضايا المناخ والبيئة. كل منا أعياه صيف قائظ، حرارته فوق الاحتمال، أو تضرر من حريق نشب في غابة على مقربة من بيته، أو تضررت معيشته بسبب فيضان لم يكن في الحسبان، أو فقد عزيزاً أصيب بالملاريا أو حمى الضنك، الناجمين عن تغير درجات الحرارة، وتغير نسب هطول الأمطار، أو شعر أن الفاكهة والخضراوات التي يأكلها، لم تعد تتمتع بالقدر نفسه من التركيبة الغذائية، بسبب انبعاثات الكربون، أو حتى فوجئ بأن قائمة مشترياته من الطعام والشراب، تأثرت سلباً في السنوات القليلة الماضية، حيث لم تعد أنواع مستوردة موجودة، ولا بدائل محلية لها.

المناخ وتغيراته، والبيئة ومعضلاتها، لم تعد مسائل محلية، تعني دولة دون أخرى، أو يبحثها قادة وليس غيرهم. الجميع – تقريباً- حاضر. أغلب دول العالم موجود، وحتى إن تغيب زعيم هنا أو هناك، لأسباب سياسية أو استراتيجية. هذه المرة، الجميع، حكاماً ومحكومين، يعرفون، بدرجات متفاوتة، أن المناخ بات قضيتهم.

وقضية الدول العربية في المناخ محورية، والمشاركة العربية في القمة ليست صورية، أو من أجل الدبلوماسية، والحضور السياسي فقط، لكنها من أجل الحياة والمستقبل.

وطالما ذُكِر المستقبل، فإن الإمارات تفرض نفسها على أعمال القمة وتفاصيلها. وهذا لم يحدث بين قمة وضحاها، بل رسخ جذوره على مدار ما يزيد على عقد ونصف، وتحديداً منذ اتخذت الإمارات قراراً بأن يكون العمل المناخي جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيتها الوطنية. وكانت النتيجة أن تحولت إلى نموذج حي، لما يمكن للوعي والإرادة واستشراف المستقبل أن يسفر عنه، من آثار إيجابية على الجميع، حتى لو لم تكن آنية. وها هي النتيجة: استثمار وعين على الكوكب، والأخرى على المستقبل، حيث النمو والتنوع الاقتصادي.

واستوقفتني كثيراً، منظومة الإمارات الخاصة بالحلول المستدامة، ففي الاستدامة سر الاستمرار. تجربة الإمارات المعروضة في «كوب 26»، أو قمة المناخ الحالية، لا تقتصر على استثمارها في التقنيات والسياسات منخفضة الكربون، أو 40 مليار دولار قيمة استثمارها في الطاقة النظيفة وغيرها، بل تذهل الجميع، بجهود استكشاف أنواع جديدة من الطاقة صفرية الانبعاثات، وتعرض تجربة «شركة بترول أبوظبي الوطنية» (أدنوك)، وهي أول شركة نفط وغاز تؤمن احتياجاتها من الطاقة الكهربائية النظيفة، معتمدة على الطاقة النووية والشمسية، لا سيما أن الإمارات تمتلك ثلاثاً من أكبر وأكفأ محطات الطاقة الشمسية في العالم.

نموذج آخر تطرحه مصر أمام العالم في هذه القمة، الأهم والأخطر، وهو نموذج لما يمكن للدول السائرة قدماً في طريق التنمية السريعة والمتعافية من عقود من المصاعب، أن تفعله. فمصر حالياً، تطبق منظومة تنموية مستدامة، هدفها الوصول بنسبة المشروعات الخضراء التي تمولها الدولة إلى 50 في المئة بحلول عام 2025، ومئة في المئة بحلول عام 2030. ويحدث في مصر الآن، تحول حثيث نحو وسائل النقل النظيف والمستدام، بالإضافة إلى قائمة طويلة من مشروعات، تحمل راية إدارة المياه إدارة متكاملة ورشيدة، في المناطق الساحلية.

قمة المناخ، ستنتهي بعد أيام قليلة. ربما تطغى طرائف القمة على اهتمام الناس لوهلة. فلدينا غفوة هنا للرئيس الأمريكي بايدن، وأخرى هناك لرئيس الوزراء البريطاني جونسون، وتهديد عمال النظافة المسؤولين عن جمع محتويات سلات المهملات في شوارع غلاسكو، بالإضراب أثناء أعمال القمة، ومخاوف من غزو الفئران للمدينة، بعد انتهاء الإضراب، نظراً لتجمع القمامة، ناهيك عن لقاءات مفاجئة، لم يجرِ الترتيب لها خارج القاعات الرسمية، وقائمة «الأطعمة المستدامة» المقدمة للحاضرين، مع إمكانية إعادة استخدام بواقي الطعام في أطباق أخرى، وغيرها كثير. لكن سيبقى معنا اليوم وغداً، نتائج قمة غير سياسية، بمعنى السياسة المباشر، غير اقتصادية، بحسابات المال والأعمال الآنية.

نتائج «كوب 26»، باقية مع نحو 7.8 مليارات إنسان، يعيشون على ظهر الكوكب. ستكون هناك تفاصيل كثيرة للتوصيات والاتفاقات، لكن ستبقى «كوب 26»، نوبة صحيان للجميع، ودليلاً دامغاً لكل عربي وعربية، على أن المناخ لم يعد قضية آخرين، بل قضيتهم الحتمية، ذات الأولوية.

«كوب 26»، هي بحق قمة تفاصيل الحياة.

 

* كاتبة صحافية مصرية

Email