آفة الحديث احتكاره

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكاد أجزم بأن أكثر ما يبدد متعة الحديث وفائدته هو آفة احتكارنا للكلام. مشكلة من يحتكر الحديث داخل أروقة العمل أو خارجها ينسى أنه ينفّر السامعين من التواصل معه، فيصرفون أنظارهم عنه تحاشياً لورطة جديدة، فالثرثار يبحث عمن يبادله النظرات حتى يصب عليه جل حديثه. ومثلما نتهرب من الأسئلة المحرجة، فهناك من يتهرب من هذا الاحتكار الكلامي الخانق، وهو هروب مشروع.

المعضلة الشائعة التي نقع فيها جميعاً، بدرجة أو بأخرى، هي شعورنا بالمتعة أثناء الحديث المنفرد، الذي ينسينا أننا قد خرجنا عن جادة اهتمام المتلقي، فلحظات استمتاع المتحدث بكلامه ليست دليلاً قاطعاً بأن من حوله يبادلونه المشاعر نفسها، فأفهام الناس، وخلفياتهم العلمية والثقافية وتجاربهم تختلف. وكذلك الحال مع عنصر الدهشة أو الصدمة بمعلومة أو تجربة جديدة قد يكون هناك من سبقنا إليها بسنوات أو شهور.

ولذا كان من الحكمة عدم الاستئثار بالحديث، ومحاولة تجاذب أطرافه بعدالة، وبما يتناسب وطبيعة المنصتين، فما الذي يضر المتحدث لو أنه تلفت حوله قبل أن يدلي بدلوه فقد يكون هناك من هو أعلم أو أفضل منه في ذلك الموضوع، ولهذا منحنا الله تعالى «نعمة السؤال»، لأنه أداء نستقي منها المعلومة والفائدة، وبها نظفر بتقدير الآخرين واحترامهم.

كما أن محتكر الحديث يغفل مسألة مهمة، وهي أن بريق عيون المستمعين المنهمكين قد يتسلل إليها الملل بسبب إطالة، أو خروج متكرر عن الموضوع، أو عدم منح الآخرين فرصة المشاركة، وعندما يحتكر أحدنا الكلام فهو في الواقع يدفع المتلقي نحو تجنب مواصلة الحديث معه، وهذا ما يفسر تهرب الناس من أولئك الذين يقتحمون نقاشاتنا الهادئة أو الباسمة بموضوعاتهم الشخصية أو الجادة أو المملة، والتي لا تتماشى مع طبيعة اللقاء. ولذا، كان المتطفلون على لقاءاتنا هم آفة الأنس الاجتماعي، لأننا كوننا بشراً نصل إلى ذروة الاستمتاع حينما نجد آذاناً صاغية أو شخصاً يستحق أن نبادله أطراف الحديث. ولهذا، كان من البديهي عدم دعوة أناس «يتفننون» في تخريب متعة الحوار باحتكار موضوعاته أو تعليقاته أو مقاطعاته، ذلك أن من يقاطع هو في الواقع يسحب الحديث عنوة نحوه، وكثرة المقاطعات تشتت الذهن وتقطع حبل أفكاره.

ومن الحلول لمشكلة احتكارنا للحديث أن نمنح الآخرين «الميكروفون» للحديث بأريحية من دون مقاطعات سوى آذان صاغية. أذكر أنني ذات يوم كنت أعتزم لقاء مسؤول رفيع فقال: لديّ 15 دقيقة ظهراً هل يمكن أن نلتقي؟ فوافقت فوراً مصطحباً معي «تكنيكاً خفياً». وما إن شرعت بالدخول حييته وبدأت أثني على أنشطته الأخيرة، التي قرأتها بتمعن، ثم تركت له «الميكروفون» إن جاز التعبير، فبدأ يزيد ويعيد في موضوعات كثيرة مشابهة تهمه، فتهللت أساريره، حتى تجاوز اللقاء الساعة، وشعر حينها بارتياح كبير، وهذا هو بيت القصيد، فلم أقاطعه سوى بنظرات اهتمام وتقدير وتركيز. بعدها تطرقت لموضوع اللقاء بعجالة حتى لا أطيل، فوجدته يرغب بالمزيد إلى أن تجاوز لقاءنا القصير نحو ساعة ونصف الساعة، والسبب هو «قوة الإنصات» وتجنب احتكارنا للحديث. ويمكن بسهولة معرفة مدى اهتمام المتحدث بجلستنا من شدة انهماكه بالحوار، الأمر الذي ينسيه عقارب الساعة ومواعيده والتزاماته!

إذاً احتكار الحديث قد يكون حاجة بشرية فطرية، لكننا نستطيع أن نستفيد منها في دفع من يهمنا شأنه أو علاقته إلى الفضفضة شريطة أن نبادله باهتمام صادق وتركيز. الإنسان بطبعه لماح، ويمكنه بسهولة أن يكتشف زيف تصنعنا.

ولذلك كانت الثرثرة رديفة احتكار الكلام وهي عادة مذمومة في جميع المجتمعات، وتزداد سوءاً عندما يستخدمها أحدنا في غرف الاجتماعات، فيضيع أوقاتاً مهمة في توافه الأمور، ولذا قيل إن الثرثار شخص تسأله عن الوقت، فيشرح لك كيف صُنعت الساعة!

 

* كاتب كويتي متخصص في الإدارة

Email