بريطانيا بحاجة لأصدقاء جُدد دون التخلي عن القُدامى

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُذكرنا الجدل الذي أثارته اتفاقية «أوكوس»، بحقيقة راسخة، مفادها أنه لا مكان للمشاعر في السياسات الدولية. وربما يكون هذا التذكير بمثابة أخبار جيدة للمملكة المتحدة. فعلى سبيل المثال، أياً ما كانت آراء الآخرين في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، فسيواصلون التعامل مع لندن، كما لو كان هذا الخروج في مصلحتهم. ويتوقف نجاح «بريطانيا العالمية»، على تلك النوعية البراجماتية من علاقات الشراكة، إلا أنه يقتضي أيضاً، تبني بعض الخيارات الصعبة.

ولعل صفقة الغواصات الأسترالية، مثال واضح للتأثير السلبي الذي يمكن أن تتركه التحالفات البريطانية الجديدة في علاقاتها الدبلوماسية مع أوروبا. وحتى هذه اللحظة، فإن الضرورات المُلِحة التي اقتضت «بريكست»، من وجهة نظر أنصاره، والذين يُولون الأهمية لعلاقات بريطانيا بفضائها الأنغلوساكسوني، هي نفسها التي، ومن وجهة نظرهم أيضاً، تُولِي الأهمية للتعاون الوثيق بين بريطانيا ومحيطها القريب....

وبالفعل، فمن الصعوبة الشديدة بمكان، أن يتصور المرء أي استراتيجية رشيدة لــ «بريطانيا العالمية»، يُمكنها أن تتجنب أوروبا. وبينما يُمكن تحقيق الكثير من الإنجازات من خلال العلاقات الثُنائية، فليس من الممكن بناء التعاون المُفيد - خصوصاً في المجالات التي تندرج تحت اختصاص الاتحاد الأوروبي، كالعقوبات مثلاً - من دون ارتباط قوي ببروكسل.

وتسابقت التقارير الحديثة، التي صدرت عن العلاقات البريطانية الأوروبية، في رصد المواقف الأوروبية المُتباينة حيال المملكة المُتحدة. فعلى سبيل المثال، تخشى برلين، التي تكاد تفقد أعصابها، بسبب ما تراه نهجاً بريطانياً غير مسؤول في التعامل مع «بريكست»، أن المملكة المُتحدة، قد تستخدم علاقاتها الثُنائية في تقسيم الاتحاد الأوروبي. وعليه، يتضح سبب إصرار ألمانيا أن تبقى العضوية بالاتحاد الأوروبي «نقطة مرجعية أساسية»، وذلك لضمان أعلى مستوى مُمكن من الشفافية في التعاملات بين الدول الأعضاء بالاتحاد.

وإذا انتقلنا صوب الجانب المقابل من المحيط الأطلسي، فسنجد أن الولايات المُتحدة الأمريكية، مُتحمسة دوماً للعمل مع شركاء يتفقون معها في المصالح ووجهات النظر نفسها. ولكن على الرغم من ذلك، فإن الحساسيات المُتعلقة بقضية إيرلندا الشمالية، ستؤثر سلباً إلى حد بعيد في حرية بريطانيا في التحرك، وعلى هامش المناورة المُتاح لها بشأن ترتيبات التجارة مع إيرلندا الشمالية، في حقبة ما بعد «بريكست». والأكثر أهمية من ذلك، أن بريطانيا فقدت بالفعل قُدرتها على التحرك، كجسر يربط بين الولايات المُتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.

وبالرغم من كل ما سبق، فثمة فرص جديدة، ظهرت في أماكن أخرى. فلدينا البرازيل، على سبيل المثال، والتي لطالما أبدت حنقها مما تراه توجهات حمائية من جانب الاتحاد الأوروبي. والآن، فإن «بريكست» يُعزز إمكانية إبرام اتفاقيات تجارية متعددة بين لندن وبرازيليا، في مجالات متنوعة، من أهمها تيسير التجارة والاستثمار بين الجانبين.

ولعل أهم ما فقدته بريطانيا حقاً، هو الثِقَل الذي يتأتى من المُشاركة في مُنظمة قارية. فلا يبدو أن أياً من الولايات المُتحدة أو الصين، تتعامل مع «بريطانيا العالمية» بجدية. وببساطة، يفترض صانعو السياسات في الولايات المُتحدة، أن المصالح البريطانية، ستتفق مع مصالح بلدهم. وبدورهم، يستهزئ المعلقون الصينيون من فكرة أن بريطانيا تمتلك الإمكانات اللازمة، لتحويل حديثها الخطابي المُنمق ضد الصين، إلى إجراء مؤثر.

ولكي تُعيد تأسيس نفسها، تحتاج لندن شركاء جُدداً. اليابان، مثلاً، رحبت بالتوجه البريطاني الأخير، في علاقاتها صوب المنطقة المعروفة باسم «المحيط الهادي الهندي»، ويُقصد بها الحيز البحري الذي يضم المحيط الهندي، والمنطقة الغربية من المحيط الهادي، ويشمل أيضاً دول غرب آسيا، ومنطقة الشرق الأوسط. وترى طوكيو هذا التوجه، بمثابة مشروع لتحالف مُحتمل مع لندن، ضد طموحات بكين التوسعية. ولعل «أوكوس»، تمنح طوكيو بعضاً من الطُمأنينة في هذا الشأن.

ولطاما تجنبت لندن المواقف التي تكون فيها مُلزَمَة بالاختيار بين الرغبة بعلاقات اقتصادية مع بكين، وبين الحاجة إلى حماية مصالح وقِيم الاتحاد الأوروبي. وكما هو الحال في اليابان، فإن الهند أيضاً، ترى فُرصاً في التوجه البريطاني صوب «المحيط الهادي الهندي»، بيد أن نيودلهي ليست مُتيقنة من الدرجة التي تنظر بها لندن إلى بكين كتهديد.

وتبدو الخيارات المُتاحة أمام بريطانيا، أقرب جغرافياً إليها بالضرورة. والجغرافيا وحدها، تعني أن بريطانيا تشترك مع جيرانها في المصالح الاستراتيجية. ويبدو واضحاً أن العلاقات الأوروبية الأطلسية، حيوية لأمن بريطانيا ورخائها. إيطاليا، على سبيل المثال، مُستعدة للتعاون مع بريطانيا، بالنظر إلى مصالحهما المُشتركة، المُتمثلة في الحد من نفوذ الصين وروسيا. وترى فرنسا في «بريطانيا العالمية»، سبباً حقيقياً للتفاؤل، ذلك أنها تُتيح لباريس الخيار بين التعاون مع لندن، بشأن الأمن داخل الاتحاد الأوروبي، أو العلاقات الثُنائية معها في مجالات ليست خاضعة لسيطرة الاتحاد - كان كل ذلك قبل «أوكوس» بالطبع.

ولكن يبقى السؤال الأهم، وهو: هل المملكة المُتحدة راغبة باتخاذ الخطوات السياسية اللازمة لإدراك الفائدة المرجوة من هذه العلاقات؟ تقدم لنا «أوكوس»، أول تصور عملي لما تعنيه «بريطانيا العالمية» حقاً. وسيتحدد نجاح المملكة المُتحدة، في الاستفادة من علاقاتها، بمدى قُدرتها على إقناع الدول الأخرى بموثوقيتها كشريك.

 

* أستاذ السياسة الأوروبية والشؤون الخارجية، بكلية «كينغز كوليدج» البريطانية

Email