أهلاً بالخريف.. عتبة الشتاء

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن مر بك الزمن، دعه يمر، لا تذهب معه. وإن انحنى ظهرك لا تنحنِ معه. وإن غطى الشيب رأسك قل ما أجمل لون الثلج. لا ترَ من الخريف ورقه الأصفر، إنه ذهب الفصول كما أوصتنا فيروز، «ذهب مشغول تحت الشبابيك».

قف على شباك العمر، أطل على حديقة بيتك، وإن لم يكن لديك حديقة فاستأذن جيرانك، اطلب منهم أن تشرب عندهم فنجان قهوة تحت شجرة لا تخجل من عريها. إنها تنزع ثيابها القديمة لترتدي أخرى جديدة. غداً يأتي الشتاء لتغتسل بالمطر، تشرب حتى ترتوي من أعمق جذورها حتى أطراف أصابعها.

تجدد بالماء الدماء في عروقها فتزهر وتثمر وتقدم لك الخوخ والبرقوق والتفاح والرمان والأعناب وما تجود به الأرض التي أحياها الله بعد موتها. هو الربيع آت، لا يتأخر ولا يتقدم. ليس مثل «غودو» يأتي ولا يأتي.

لا تكتف بنصف الحقيقة، وهي أن الخريف موسم الرحيل والحنين، الغياب والبعاد. الذكريات التي تنهض بلا استئذان، تدق باب قلبك وتقتحم أفكارك. موسم الريح التي تذرو ما أمامها. لا بأس، اسقِ الذكريات من روحك واشرب منها إكسير الحياة. ما تذروه الريح هو ما علق على السطح من غبار الأيام ومن ورق لم يتقن فن البقاء، دعه يسقط. كذلك البشر، من اختار أن يسقط من شجرة حياتك فليسقط بلا أسف.

لا تدع الكآبة تتسلل إلى روحك كبدر شاكر السياب حين قال:

في ليالي الخريف، حين أصغي وقد مات حتى الحفيف... والهواء

تعزف الأمسيات البعاد، في اكتئاب يثير البكاء.

ولا مثل محمود درويش حين قال:

كان الخريف يمرّ في لحمي جنازة برتقال، قمراً نحاسياً تفتته الحجارة والرمال

وتساقط الأطفال في قلبي على مهج الرجال، كلُّ الوجوم نصيب عيني

كلُّ شيء لا يقال

ومن الدم المسفوك أذرع تناديني: تعال!

كن مثلما قال أدونيس:

الخريفُ يعلّمنا كيف نَحيا

ما الذي تَسْتَشْرِفُ الآنَ؟ وما المعنى الذي تبحث عنه

واثقٌ أنّكَ تلقاهُ وتَلْقى، مَن يؤاخيكَ ومن يُصغي إليكْ؟

سنغنّي، ليكونَ الزّمنُ الطّالعُ باباً، وتكونَ الرّيحُ مفتاحاً

وضعنا لهبَ الأسرارِ فيهِ، ورَماهُ حبّنا بين يديْكْ.

كنت أحزن حين أرى الأوراق تصفر وتتساقط على الأرض. لكني تعلمت أن أنظر إلى الأمام لا على الأرض ولا إلى الخلف. أنظر إلى الأبناء والأحفاد الجدد للشجر. أغصان تصبح أطول من آبائها، أوراق رضيعات تنبت عند مفاصل الأغصان الأم.

أنظر أبعد فأراها حين تكبر، تتمدد وتتورق وتخضر وتثمر. نكشت أرضها، فتشت عن ما يؤذيها واقتلعته، سمدتها، مهدت لجذوعها مساحة أوسع لترتاح على سرير من تراب طري.

فالخريف يضعك أمام مسؤولية تجاه شجرك. وأول ما يجب عليك فعله، كما ينصح خبراء الزراعة، هو تسميد التربة بالأسمدة العضوية أو الكيماوية، ثم تأمين الحماية للنباتات توقّعاً لصقيع قد يصطحبه الخريف معه. في مثل هذه الحالة عليك أن تمهّد التربة في المكان الذي تزرع فيه نباتاتك بالقش والأوراق اليابسة وأي مواد عضوية أخرى حتى تبقى التربة دافئة.

الشجر بشر لا يتكلم. يأكل ويشرب. كريم، معطاء. لا يطالبك بما هو أكثر من الماء. يعيش واقفاً ويموت واقفاً. يعلمنا ألا نحزن، ألا نيأس، أن نصبر وأن ندرك أن الحياة فصول أيضاً.

فإن سقطت عنك ورقة فلا يعني أنه الخريف. وحين تحاصرك الهموم وشعرت أنه الخريف فإن بعد الخريف شتاء، مطر وحكايا وكستناء وارتواء. وبعده ربيع، زهر وورد، ثمر وقمر واخضرار.

لكن... احذر، احذر أن تذبل روحك.

Email