عالم جديد يتشكل.. أين نحن منه؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تجتاز البشرية مرحلة حساسة، نعتقد أنها ستكون حُبلى بالتحولات الجيوسياسية، بما قد يدفع نحو إعادة النظر في التحالفات القائمة منذ انهيار منظومة الاستقطاب الثنائي، بداية تسعينيات القرن الماضي، حينها انهار الاتحاد السوفييتي، وأُعطي لروسيا دور هامشي، بالتنسيق مع الرئيس السابق بوريس يلتسين، قبل أن يعتلي الرئيس فلاديمير بوتين كرسي الرئاسة، ليبدأ عملية ردّ الاعتبار لروسيا على المستوى الدولي.كانت كلّ الدلائل تشير إلى أنّ العالم يتجه إلى عالم متعدّد الأقطاب والمصالح، بعد أن كان على مدى سنوات محكوماً بالقطب الواحد، غير أنّ تحريك معطى التطرّف والإرهاب، شوّش على التطوّر الطبيعي في اتجاه هذا العالم متعدّد الأقطاب والمصالح، ليفرض على كلّ الدول أولوية التعاطي مع هذا المعطى الجديد، بعدما أضحى خطر جماعات «الإسلام السياسي»، التي تصرّ على توظيف الدين، والذي يعد قاسماً مشتركاً بين الناس، أضحى إذن يهدّد مناطق تمتدّ من أفغانستان والصين، إلى روسيا وأوروبا، مروراً بمنطقتنا العربية، ووصولاً إلى أعماق القارّة الأفريقية.

ولا يخفى أنّ المحرّك الأساسي لسياسات الدول دوماً، هو مصالحها التي تمرّ عبر العامل الاقتصادي، كما لا يخفى أنّ الاقتصاد الأمريكي حينها، لم يكن في أفضل حالاته.

وبَدَلَ أن يكون العالم محكوماً بأقطاب ثلاثة، هي أمريكا والاتحاد الأوروبي والقطب الروسي الصيني، فرض التطرّف والإرهاب على الجميع حرب استنزاف مكلفة، زادت من حدّة الأزمة الاقتصادية التي تعيشها أغلب الدول، رغم أنّ التداعيات السلبية لهذه الحرب على هذه الدول، لم تكن بنفس الدرجة.

اليوم، بدا أنّ المجتمع الدولي أقرّ العزم على قَبْرِ ورقة توظيف «الإخوان» و«الإسلام السياسي»، وتحويلها في أحسن الحالات إلى خلايا نائمة في منطقة الساحل الأفريقي، وفي أفغانستان، والانصراف الكلّي إلى المواجهة الاقتصادية المباشرة، بما حتّم على الولايات المتحدة تحديداً، ضرورة التخلّص من أعباء تدخلاتها الخارجية، والتركيز على تمويل حربها الاقتصادية ضدّ العملاق الصيني القادم.

وإذا كانت الحرب ضدّ الإرهاب، دفعت الاتحاد الأوروبي، والغرب عموماً، إلى ركوب السفينة الأمريكية، فإنّ الحرب الاقتصادية ضدّ الصين، لَا تحظى بإجماع هذه الدول، وهو ما قد يكون دفع واشنطن إلى التفكير في خلق منظومة دفاع «أنجلو سكسونية» في المحيط الهادي، مركزها أستراليا، وتشمل كذلك، وأساساً، بريطانيا، التي تحاول تجاوز التداعيات السلبية لخروجها من الاتحاد الأوروبي، وكندا التي تجمعها علاقات معقّدة مع الولايات المتحدة.

وقد بدأ الحديث نهاية الأسبوع الماضي، على أنّه، وفي إطار محاولة واشنطن بعث قطب دولي مضادّ للصين، اقترحت على أستراليا تزويدها بغوّاصات قابلة للاستخدام النووي، وهو الأمر الذي قد يكون دفع هذه الأخيرة إلى الإلغاء الفجائي لعقد اقتناء 12 غوّاصة تقليدية من فرنسا، تبلغ قيمته الجملية، 39 مليار دولار، وهو الأمر الذي دفع الجمعة الماضي، فرنسا، إلى استدعاء سفيريها في كلّ من الولايات المتحدة وأستراليا، للتشاور، وذلك في حركة غير مسبوقة، في تاريخ العلاقات بين هذه الدول.

الواضح إذن، أنّ تحوّلات جيو-سياسية قد تشهدها المنطقة والعالم، وهو ما يعني ولادة منتظرة لتحالفات جديدة، مبنية على مبدأ مصلحة الدول لا غير، بعيداً عن الأفكار والأحلام الطوباوية، وهو المنحى الذي سارت فيه واشنطن منذ عقود، مع اختلاف بسيط في الإخراج بين الجمهوريين والديمقراطيين.

والدرس الواجب الاحتفاظ به، هو أنّ الأفكار مهمّة دوماً، لكنّ مصلحة الدول والالتفاف المجتمعي حولها أهمّ.

ونسوق هذا الاستنتاج، لاقتناعنا التام بأنّ دولنا التي تحمّلت عبء وتبعات نزاعات دولية عدّة، لا مصلحة لها فيها، وكانت في أغلب الأوقات مسرحاً لها، حان الوقت كي تستوعب وتعي أنّ استمرارها، يمرّ حتماً عبر تمتين النسيج الاجتماعي الداخلي، رغم كلّ التناقضات والاختلافات، شريطة التزام كلّ الأطراف بأجندة المصلحة الوطنية، وبالآليات الديمقراطية، لحسم النزاعات، وباحترام القانون، وبنبذ التطرّف والعنف والإرهاب، وبتوسيع شبكة العلاقات والتعاون مع مَنْ مِنْ أصدقائنا وجيراننا، الذين تجمعنا بهم المصلحة أوالقيم الحضارية المشتركة، ويحترمون بالخصوص خيارات مجتمعاتنا، ولا يعتدون على حقوقنا التاريخية، وعلى وحدة أراضينا المقدّسة.إنّ المرحلة المقبلة، هي مرحلة سيادة الأوطان، ومصلحة الدول، وانتهاج سُبل التحصيل المعرفي، والالتقاء المجتمعي حول الأساسيات الوطنية، ونبذ التطرّف والعنف، مهما كان مصدره، والتصدّي له، وما عدا ذلك، فهو من التفاصيل التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع.

Email