العمل من المنزل لن يخفض الانبعاثات الكربونية

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا تمسكنا بالمتغير الجديد، الذي يُعد من أبرز المتغيرات التي فرضتها جائحة «كوفيد 19»، وهو العمل عن بُعد، فمن المفترض أن يعني هذا هواءً أنظف، إهداراً أقل للوقت في إشارات المرور، وانبعاثات كربونية أخف.

أثير هذا الطرح العام الماضي، في كتاب جديد للكاتب والباحث الإنجليزي المتخصص في شؤون الانبعاثات الكربونية، مايك بيرنرز لي، وهو بالمناسبة شقيق سير تيم بيرنرز لي، مخترع الشبكة العنكبوتية العالمية، والمعروفة اختصاراً باسم «ويب».

ويُعد مايك بيرنرز لي، بمثابة سلطة عالمية موثوق بها في مجال البصمة الكربونية. لذا، فعندما يدلو بدلوه في هذا الشأن، فله علينا حق الإصغاء والتفكير ملياً في ما يقول. ويجيب بيرنرز لي في كتابه، عن سؤال يبدو أكثر إلحاحاً، في وقت بدأت فيه الشركات تُجرب نظام العمل الهجين، بين العمل من المكتب والعمل من المنزل، بعد تفشي الجائحة.

والسؤال هو: هل العمل عن بُعد أفضل لكوكبنا؟ وبطرح أكثر وضوحاً: هل يساعد العمل عن بُعد في خفض استخدام أنظمة الطاقة التي تعتمد على الوقود الأحفوري، والتي تسهم على نحو هائل في ارتفاع درجة حرارة الأرض؟.

أشارت دراسات عديدة صادرة قبل تفشي الجائحة، إلى قدرة العمل عن بُعد على تحقيق ذلك. وذكرت بعض هذه الدراسات، أن التحول صوب العمل عن بُعد، يُحقق خفضاً في استهلاك الطاقة بنسبة هائلة، تصل إلى 77 %، وأوضحت أن غالبية هذا الخفض، يتحقق في المقام الأول، نتيجة الانخفاض في اضطرار الموظفين إلى السفر يومياً إلى مُدُن أخرى، بخلاف المُدُن التي يعيشون فيها، وذلك بُغية الذهاب إلى أعمالهم.

ولكن للأسف الشديد، وكما هو الحال في العديد من الجوانب المُتعلقة بالتغير المناخي وجائحة «كوفيد 19»، فإن الموقف أكثر تعقيداً مما قد يبدو.

وقال بيرنرز لي هذا الأسبوع، عندما سُئِل الأسبوع الماضي عن فكرة أن العمل عن بُعد يهبط بالانبعاثات الكربونية: «يتوقف هذا الأمر فعلياً على ظروفك».

ويشرح بيرنرز لي موضحاً أن أحدهم قد يعمل من بيته غالبية أيام الأسبوع، فلا يُضطر إلى قيادة سيارته يومياً لمسافة 100 أو 150 كيلومتراً، أو ربما أكثر من ذلك، ولمدة خمسة أيام أسبوعياً. وبالتالي، فإنه بالفعل يُحدث خفضاً هائلاً في بصمته الكربونية. ولكن قد يحدث العكس تماماً، مع شخص آخر يقع مقر عمله في نفس المدينة التي يعيش بها داخل شقة صغيرة مزدحمة.

واعتاد أن يذهب إلى عمله يومياً، مستقلاً مترو الأنفاق. فإذا انتقل هذا الشخص للسكن في منزل آخر أكبر، وأكثر نهماً في استهلاك الطاقة، وهو الحال مع العديد من الناس في مختلف أنحاء العالم، الذين انتقلوا إلى مساكن ذات مساحات أكبر، استغلالاً لانخفاض أسعار البيوت، بسبب تداعيات «كوفيد 19»، فهذا في واقع الأمر، ليس موفراً لاستهلاك الكربون على الإطلاق، حتى لو صار هذا الشخص يعمل من منزله.

وبدوره، يرى ستيف سوريل، أستاذ سياسات الطاقة لدى جامعة «ساسكس» البريطانية، أن الأمر قد ينتهي بالعمل من المنزل، وقد صار أكثر استهلاكاً للكربون في بعض الأحوال. ويشير سوريل إلى بحث حديث، أوضحت نتائجه أنه قبل اندلاع أزمة الجائحة، كان العديد من الأشخاص الذين يعملون من منازلهم، يستغلون الوقت المتوفر من عدم اضطرارهم للذهاب إلى أعمالهم، ويستفيدون منها في الخروج إلى رحلات ونزهات، ربما لم يكونوا يفكرون فيها عندما كانوا يذهبون إلى أعمالهم، فقد يدفعهم الشعور بالملل أو الوحدة، إلى كثرة ارتياد المقاهي، المطاعم أو مراكز التسوق.

وفي بعض البلدان التي تمتلك الأُسَر فيها عدداً أقل من السيارات، مثل كوريا الجنوبية، تبين للباحثين أن أعضاء آخرين من الأسرة، يستخدمون السيارة بدلاً من الشخص الذي توقف عن استخدامها، بعد أن تحول للعمل من البيت. لذا، لم يتغير الأمر فعلياً، فما زال هناك استخدام للسيارة، وبالتبعية، استهلاك للوقود، بصفة يومية، بل وربما على نحو يفوق ما كان يحدث عندما كان الشخص يذهب إلى عمله يومياً.

وثمة جانب آخر له أهمية في هذا الأمر، وهو راحة الأشخاص، بعد أن صاروا يعملون من بيوتهم. فإذا كانوا يسكنون في بيوت منعزلة ذات إضاءة مفرطة، فالمحصلة في النهاية، هي زيادة استهلاك الطاقة.

قد يبدو واضحاً الآن، إلى أي حد الأمر مُعقّد، والدرس المُستفاد هو، أن العمل عن بُعد، قد يسهم بالضرورة في إنقاذ أناس عديدين من «كوفيد 19»، ولكنه بالضرورة لن يُنقذ الكوكب من الانبعاثات الكربونية.

 

* محررة اقتصادية لدى صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية

 

Email