«أوروبا أولاً».. فكرة للتداول

ت + ت - الحجم الطبيعي

ورث الديمقراطيون بزعامة جو بايدن في واشنطن، مشهداً للعلاقات الأمريكية الأوروبية موشّى بمظاهر التأزم والصدوع، على نحو لم تألفه البيئة الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية..

ومن ذلك التلاسن الحاد بشأن الانسحاب الأمريكي من اتفاقية باريس للبيئة التي يتحمس لها الأوروبيون، وفرض رسوم حمائية على استيراد الصلب والألمنيوم من دول الاتحاد الأوروبي، بما أنذر برد أوروبي يفتح باباً لما يشبه الحرب التجارية. ومعايرة الأوروبيين بضعف مساهمتهم في موازنة حلف الناتو الذي «يحميهم»..

زاد من التأثير السلبي لهذه المستجدات، أن إدارة الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، التي أعلت مبدأ «أمريكا أولاً»، راحت تتعامل مع الشركاء الأوروبيين، الحلفاء قولاً وفعلاً، بخطاب لا يخلو من لهجة استعلائية فوقية لا تستثني السخرية من بعض قادتهم.

ويندرج في إطار الضرب الأمريكي تحت الحزام، تشجيع تيار الـ«بريكست» في بريطانيا، القاضي بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي. فمن وجهة نظر معتبرة، أن هذا التيار ما كان له أن يغلو في مراده، ثم يحققه، بمعزل عن الوعود التي أسدتها واشنطن، بتعويض «الحليف البريطاني الصدوق»، عما يمكن أن يلحق به من خسائر اقتصادية، تجارية بالذات، جراء انفكاكه من القطار الاتحادي. والحق أن هذه الخطوة، جاءت مخالفة لتقليد رعاية التوجّه الوحدوي في القارة العجوز، الذي ظلت واشنطن حريصة عليه زهاء سبعين عاماً.

في معالجتهم لهذه الاستفزازات غير المسبوقة، تعامل الأوروبيون بكثير من التروي وكظم الغيظ. والأرجح أن خبرتهم الممتدة في المحيط العالمي، ساهمت في تلقي سياسات سنوات ترامب العجاف معهم، بإجراءات تراوح بين التوضيح والاصطبار وخفض حدة التوتر، وبين التحسّب وضرورة الإقدام على رفع سقف الاستقلال السياسي والأمني، كرديف للقوة الاقتصادية والحفاظ على المكانة الدولية.

فمن جهة، رفض الأوروبيون الانجرار إلى مربّع كسر العظم والتخاصم المفتوح مع الولايات المتحدة. لقد عبروا عن انزعاجهم وغضبهم من سياسة ترامب التي ترفع شأن التنافسية على شأن الشراكة والتفاهم. ومع أن بعضهم هاجم مفهوم «أمريكا أولاً» طالما أنه سيتأسس على حساب الشراكة الاستراتيجية معهم، وعدم التمييز بين الخصوم والحلفاء، إلا أن الرأي الذي ساد بينهم هو التحفظ واللين والأخذ بعين الاعتبار الشديد أن «الولايات المتحدة ما تزال الشريك الاقتصادي والحليف العسكري الأهم والأقرب بالنسبة لنا». ويبدو أن هذه المقاربة العقلانية، استهدت بثوابت الصلة والقيم التاريخية الحضارية بين الطرفين، معتبرة أن ترامب وعهده مجرد فصل قصير عابر ستذرو هذه الثوابت آثاره.

بيد أن هذه النعومة توازت، من جهة أخرى، مع نشوء قدر كبير من الحساسية تجاه ما يضمره المستقبل من تحولات ضارة في مسار العلاقة مع القطب الأمريكي. وعلى سبيل الاستنفار ضد التنمّر تجاههم.

اتبع قطاع من الأوروبيين، الوحدويون منهم بخاصة، نهجاً متشدداً.. فقد راحوا ينبهون جماعة ترامب بأن أوروبا كانت شريكاً لا غنى عنه في دحر المعسكر الاشتراكي، ويظهرون في الوقت ذاته العين الحمراء في وجه قوى الانعزال والاعتكاف القومي الشوفيني في البيت القاري، ويعيدون تلميع فكرة تشكيل القوة العسكرية الأوروبية والاعتماد على الذات والقرار المستقل في مواجهة أي خطر.

فور وصوله إلى البيت الأبيض، فطن بايدن إلى التباغض المتصاعد بين شركاء عالم الغرب، وعجل في الانحراف عن مفهوم أمريكا أولاً، مؤكداً أنه وإدارته بصدد تطييب خواطر الحلفاء والعمل معهم على «قيادة العالم». وتزامن خطاب الطمأنة هذا مع الانتباه إلى محذور المنافس الصيني، الذي يعني في التحليل الأخير الحاجة إلى تعزيز الشراكة مع الأوروبيين وليس تنحيتها.

على أنه ما كاد صفيح العلاقة الأمريكية الأوروبية الساخن أن يبرد نسبياً، حتى جاء القرار الأمريكي المنفرد بالانسحاب من أفغانستان، ليعيد المواجد إلى الأوروبيين، ويدفع بعضهم في اتجاه ربما أضاف وقوداً للحديث الهامس راهناً عن أوروبا أولاً.

إذا شاع مثل هذا الحديث وازداد أنصاره، سيكون السلوك الأمريكي المحير أحد أهم أسبابه.. إذ ما إن تتحمس واشنطن لقضية في المجال الدولي، حتى تعلن النفير العام وتستقطب من حولها الحلفاء والمحازبين.. وما إن يفتر حماسها وتعدل عن موقفها وسياستها إزاء القضية ذاتها، حتى تتخذ لها طريقاً أحادياً. وبالخصوص، يلاحظ أن بعض الأوروبيين الممتعضين يتساءلون إلى متى ؟!

* كاتب وأكاديمي فلسطيني

 

Email