ثلاثية التقدّم في الأمم.. العلم والفهم والتفاني

ت + ت - الحجم الطبيعي

بحرص الوالد الشفيق على أبنائه، وبخبرة المُعلّم الكبير الذي صقلته الأيام في تقلباتها، وبذكاء السياسي الذي يختار كلماته بعناية واهتمام، يطالعنا صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبيّ، رعاه الله، وبشكل يكاد يكون شبه منتظم بتعاليمه الرشيدة وإرشاداته الحكيمة التي هي ثمرة الخبرة العميقة في هذه الحياة، والممارسة الواعية للحكم والإدارة في مرحلة تاريخية شهدت كثيراً من التحوّلات التي أطاحت ببعض الدول، وتسببت في نكبات كثير من الشعوب، لتظل الإمارات بحمد الله وفضله الدولة التي اختطّت لنفسها مساراً في التقدم والبناء يقوم على العمل الدؤوب، والمثابرة في الإنجاز، والجمع النادر بين القول والفعل بعيداً عن الصياح والضجيج والخطب الرنّانة والتفكير العاطفي الذي كان سبباً مباشراً في أفول شمس كثير من الدول، وضياع كثير من الشعوب.

وعلى الرغم من ملامح الجدّ الصارمة في كثير مما يكتبه صاحب السموّ، إلا أنّ ذلك لم يكن على حساب العاطفة الصادقة التي يُعبّر بها صاحب السموّ عن صدق مشاعره تجاه وطنه الإمارات وأمته العربية، فهو حين ينتقد ما وصلت إليه الأوضاع التي لا تسرّ في بعض البلدان الشقيقة فإنما يتكلم من حُرقة قلبه على حال الأمة التي يجب أن تكون بحسب نظر صاحب السموّ في موضع متقدم بين الأمم، فهو يعتصرُ ألماً على حال أمته التي لم تتمكن في أغلب الدول من الإمساك بسرّ التقدم، وصياغة العيش الكريم لشعوبها، ويبدو أنّ هذا الهاجس شديد الحضور في وجدان صاحب السموّ إلى الدرجة التي دفعته إلى أن يتمنى لو كانت له دعوة مستجابة في ليلة القدر لكانت دعوته لصالح أمته العربية التي يؤلمه أحوالها المتردية، وهو ما عبّر عنه بقوله في فاتحة كتابه الثمين «رؤيتي: التحديات في سباق التميز»: «وأحبّ لإخواني وأخواتي في العروبة ما أحبه وأريده لإخواني وأخواتي في الإمارات، أريد لهم الوصول إلى مستويات الدول المتقدمة، أريد لهم أن يأخذوا بزمام الأمور، أريد لهم الامتياز في كل شيء، وأريد لهم الريادة»، ولم يكتفِ صاحب السموّ بهذه الأمنيات النبيلة لأمته الكبيرة، لكنه عبّر عما يموج في صدره من الحزن والألم حين يرى هذا الواقع المرير للعرب الذين كانوا ذات يوم سادةً للأمم، وقادةً للفكر ومصابيحَ للعلم، ويا ليت المقام يسمح بإيراد أكبر قدرٍ ممكن من كلام صاحب السموّ الذي يبعث العزيمة في النفوس، ويحرّك الهمم نحو مزيد من العمل والإنجاز في سبيل رفعة الوطن وتقدمه بين الأمم.

في هذا السياق من الاهتمام الحثيث بمسيرة الوطن، والعناية الفائقة بضرورة الارتقاء بالوعي الإداري لأبنائه، رعى صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد حفلَ تخريج طلبة الماجستير لكلية محمّد بن راشد للإدارة الحكومية، وتعبيراً عن مشاعر الرضا تجاه هذه الكوكبة من الخريجين كتب صاحب السموّ تدوينة عميقة المحتوى على حسابيْه في تويتر وإنستغرام قال فيها: «إدارة الحكومات علم، وإدارة السياسات علم، والابتكار الحكومي علم، تقدّم الدول لا يحدث صدفة، وإنما بالعلم الصحيح والفهم والتفاني، وليس بالخطب الرنّانة والوعود الحالمة».

إنّ التمعّن في المحتوى العميق لهذه التدوينة يكشف لنا عن عمق الرؤية لدى صاحب السمو فيما يتعلق بإعداد الأجيال القادرة على إدارة الدولة الحديثة، وأنّ الوصول إلى هذه الغاية أمرٌ يجب أن يتأسس على معطياتٍ علمية، وتعبيراً عن تقديره لنمط التفكير في هذه الكلية رعى صاحب السموّ تخريج هذه الدفعة النشيطة من أبناء الوطن الذين تمّ إعدادهم وصقل مهاراتهم بما يتوافق مع حجم المسؤوليات التي تنتظرهم، ولتبديد أية شكوك في طبيعة التفكير في هذه الأكاديمية الرائدة جزم صاحب السموّ بأن البرنامج المعرفي والتدريبي لهذه الكوادر لا يجري بمحض الصدفة أو الاختيار العشوائي، بل هو برنامج خاضع للمعايير العلمية، لأنّ مخرجات هذه المؤسسات يجب أن تكون علميّة، فقد تلاشى ذلك الزمن الذي كان فيه الارتجال والإدارة العاطفية هما اللذين يسيطران على مسار الدولة، وانتقل الإنسان الإماراتي إلى نمطٍ جديدٍ من التفكير العلمي الرصين في الإدارة على وجه التحديد، فنحن نعرف في قرارة أنفسنا أنّ سرّ تفوق الأمم الأخرى علينا هو في نمط الإدارة العلمية التي يديرون بها بلادهم، وهذا ما دفع صاحب السموّ للتأكيد على أنّ جميع مسارات الدراسة والتدريب في هذه الكلية هي مسارات علمية، (فإدارة الحكومات علم، وإدارة السياسات علم، والابتكار الحكومي علم)، ليضع بهذه اللغة الواضحة الرصينة الجميع أمام مسؤولياته الوطنية، فالشيء حين يكون علماً فهذا يعني أنّ هامش الخطأ فيه قليل، وأنه أفق مفتوح للإبداع والابتكار، وللتأكيد على عمق هذا الفهم يؤكد صاحب السمو على أنّ تقدم الأمم الأخرى لم يحصل صدفة بل هو ثمرة جهد علمي يقوم على ثلاثية متكاملة هي العلم الصحيح، والفهم، والتفاني، وإذا كان العلم والفهم ملكتين عقليتين متفاوتتين بين البشر، فإنّ التفاني هو موقف أخلاقي نابع من الإحساس الروحي العميق بالواجب تجاه الوطن والإنسان، فالقِيَم العقلية والعلمية لا يمكن أن تؤتي ثمارها الناضجة إلا إذا صدرت عن روح متفانية عميقة الإخلاص للحياة وراغبة في تقديم كل ما من شأنه أن ينهض بالوطن وإنسانه الثمين.

ثم كانت تلك الكلمة النقدية اللاذعة التي أراد بها صاحب السموّ أن يصحح مفهوم العمل في سبيل مجد الوطن، وأنّه لن يقوم على الخطب الفارغة والجعجعات الرنّانة والوعود المعسولة والأماني الكاذبة والسراب الخادع، فكلّ هذه الأشياء قد شاهدناها وشاهدنا نتائجها أمامنا ماثلة للعيان، حيث ينعق غُرابُ الخراب في كثير من الدول التي قام على شؤونها رجال لا شغل لهم سوى كثرة الكلام، وإطلاق الوعود، وامتصاص خيرات البلاد، وكأنّ الموقف كله يقول بلسان الحال والمقال: «السعيد من اتّعظ بغيره، والشقي من اتّعظ بنفسه، وأشقى الأشقياء من لم يتّعظ لا بنفسه ولا بغيره»، وليظل هذا الوطن الطيب السعيد رافلاً بثوب العز والتمكين في ظل هذه القيادة التي لا تساوم مطلقاً على أمنه وسيادته ومكانته اللائقة به بين الأمم والشعوب.

Email