وصايا الحكيم غيبريسوس

ت + ت - الحجم الطبيعي

في هذه القراءة، أثنى الرجل على جهود نخبة العلماء الذين تمكنوا من تحديد ماهية الفيروس بسرعة قياسية، وأشاد بالإجراءات الوقائية التي اتخذتها الدول التي شهدت تفشياً واسع المدى للوباء وبخبرة المطلع على تفصيلات الحاضر وسوابق الماضيين القريب والبعيد، لاحظ أن بلداناً، مثل كوريا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية وفيتنام في آسيا، ورواندا والسنغال في أفريقيا، وإسبانيا في أوروبا، تعلمت دروساً من التعامل مع تفشي بعض الأمراض في مراحل مختلفة، كمتلازمة سارس وشلل الأطفال وإيبولا والإنفلونزا، لصقل نظامها الصحي والاستجابة لتحدي الوباء الجديد.

من حاصل جمع خلاصة تجارب المجتمعات التي أفلحت، نسبياً بالطبع، في الحد من جبروت «كوفيد 19»، وتلك التي نجحت في محاصرة أمراض صعبة المراس من قبل، أوصى غيبريسوس، ومن ورائه منظمة الصحة، الحريصين على التصدي للوباء الماثل باتباع خطوات بعينها: الأولى، حظر المناسبات المساعدة على انتشار العدوى كالحفلات والتجمعات الحاشدة. الثانية، حماية الفئات الأضعف أمام الوباء ككبار السن وذوي الأمراض الكامنة والطواقم الصحية. الثالثة، تكثيف اهتمام الأفراد والجماعات بالحماية الذاتية، وفى طليعتها الالتزام بالتباعد وتجنب الأماكن المكتظة وأوضاع المخالطة اللصيقة. الرابعة، تشدد الحكومات في إجراءات عزل المصابين والحجر الصحي.

اللافت أن هذه الوصفة الوقائية المعمقة، خلت في حينها من الإشارة إلى الالتزام بتعاطي اللقاحات الخاصة بالفيروس.. الأمر الذي يصح تعليله بعدم التوصل لهذه اللقاحات، وربما بمحدودية الثقة في نجاعة ما تم إبداعه منها، في العام الأول للوباء.

حين نشر غيبريسوس مقاله وقدم وصفته، كان الوباء قد أودى بحياة زهاء مليون نفس. ومن دواعي الدهشة والألم معاً أن يعود الرجل قبل أيام وبالذات في 7 أغسطس الجاري إلى الإعلان عن أن «البشرية الآن في خطر حقيقي، بسبب عدوى فيروس كورونا، على الرغم من عمليات التطعيم». لقد لاحظ الرجل «توقف الناس عن الامتثال للقيود الوقائية المفروضة».. ولو أنه استخدم لغة أكثر صراحة وأقل حساسية للياقة الدبلوماسية، لقال بأن الخلق انتهكوا نصائحه وتعليمات منظمته وألقوا بها خلف ظهورهم، بدليل أن ضحايا الوباء زادوا على الأربعة ملايين ونصف المليون عدداً في الوقت الراهن.

مؤدى تقييم منظمة الصحة السلبي لنتيجة الصراع مع الوباء في هذا التوقيت، أن حملات التطعيم الجارية بوتائر متباينة في مختلف المجتمعات، لم ولن تكفي وحدها للقضاء على الوباء. الأرجح أن المنظمة تعوّل كثيراً على ديمومة الصرامة في إجراءات الحماية والوقاية التقليدية، دون إغفال دور اللقاحات والتطعيمات.. وهى فيما يبدو مستاءة من التعجل في اطمئنان الكثيرين لحركة الوباء، الذي يتجلى على سبيل المثال في التساهل مع التجمع بعشرات الألوف في ملاعب كرة القدم، أوروبياً بخاصة، والتوسع في السماح بالسفر والتنقل، والزحام على الشواطئ وكذا في بعض الحفلات الفنية..

ببساطة ودون عناء، يستطيع المتابع الوقوف على مظاهر من هذا القبيل، راحت تنتشر في غير دولة وإقليم، بما يشي بحجم التراخي إزاء موجبات دحر الوباء. لكن ما يمكن تبصره والتحسب منه في الوقت ذاته، أن الفيروس المنكود يبدي قدرة فذة على المراوغة والتحور وإعادة إنتاج نسخ معدلة، تملك طاقة المباغتة وإنزال العقاب بالمستهترين به.

القصد، أن البشرية بصدد حرب طويلة الأمد، يمكن الانتصار في جولاتها ومعاركها من خلال النفس الطويل وعبر تسجيل النقاط، وليس بالضربة القاضية. هذا هو الدرس الذي يود غيبريسوس وبطانته إبلاغنا إياه، والذي لن يخسر أحد في عالمنا شيئاً إذا ما وعاه وعمل به.

Email