توريث الفوضى

ت + ت - الحجم الطبيعي

الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، يشبه مَنْ سحب مقعداً من تحت أحد الجالسين. البيت الأبيض فعلها لمصلحته، دائرة الصراع على أفغانستان تتسع، تصفية الحسابات مع التاريخ تحكم الطريق إلى المستقبل.

الرئيس الأمريكي جو بايدن فعل ما لم يستطع سابقوه أن يفعلوه، بعد عشرين عاماً من الذهاب إلى بلاد تورا بورا، العودة إلى الديار «كما يقول الأمريكيون» باتت إجبارية الآن، رفع الغطاء عن الأفغان صار علنياً، «الكاوبوي» لم يعد يتحمل مزيداً من الخسائر وسداد الفواتير.

حصيلة الخسائر البشرية تجاوزت حاجز الـ«350» ألف ضحية، من الأمريكيين والأفغان، العسكريين والمدنيين، ما يقرب من تريليون دولار تم إنفاقها طوال عقدين من الزمان، استيقظ المارد الأمريكي، على وقع جلبة صعود التنين الصيني، والدب الروسي، إلى قمة قيادة العالم، بلاد العم سام أدركت أن عقارب الزمن ليست في صالحها، حلم استمرار القرن الأمريكي بمواصفات القطب الواحد، أضحى تحدياً كبيراً، الأزمات الاقتصادية والصحية تهدد ثبات الصورة النمطية للأمريكان في عيون العالم، بينما كانت هناك قوى غريمة صاعدة في الأفق، بكين وموسكو، ونيودلهي وغيرها، لم تستأذن في الدخول إلى حلبة المنافسة والصراع على قمة العالم، قوى امتلكت جميع الأدوات والإمكانات التي تتيح لها فرصة الجلوس في الصفوف الأولى لمجلس قيادة العالم.

واشنطن أدركت جيداً حجم هذه الأخطار، واعترفت في الغرف المغلقة أنها أهدرت سنوات من عمر الإمبراطورية الكبرى دون جدوى، الانسحاب الأمريكي من مقبرة الإمبراطوريات، لم يكن دافعه الوحيد هو الخروج أو وقف نزيف الخسائر البشرية والمادية، إنما هو استراتيجية بعيدة المدى لإنهاك العواصم المنافسة الإقليمية والدولية، سيما التي يسيل لعابها للوجود على أرض أفغانستان، وتوريطها في ذات المستنقع بهدف عرقلة صعودها الاقتصادي والعسكري والتكنولـوجيــا، بمـــا يضمـــن استمـــرار بقاء واشنطن في الصدارة، الابن البار لجورج واشنطن يطبق حرفياً نظرية الأب المؤسس، الحفاظ على هيبة الإمبراطوريــة الأمريكيــة، يستوجب إغراق الآخرين في دوامة الأزمات، صناعة التأزيم على مائدة جو بايدن كل صباح، استهداف آسيا الوسطى الهدف رقم واحد.

مختبرات البيت الأبيض تجهز طبخــــة جيوسياسيـــة مكوناتهــا الفوضــــى، والعنــف والتنظيمــات الإرهابية، والحروب الأهلية وتسعى إلى تقديمها إلى منافسيها، وفي مقدمتهم الصين وروسيا، بهدف جر هاتين الدولتين لمزيد من الإنهاك عبر الإنفاق العسكري والاقتصادي، وعـــدم القدرة على مواجهـــــة الميليشيــات والجماعات الإرهابيــة والانفصاليــة، الهـــدف واضح في استراتيجية بايدن، قطع الطريق أمام مشروع الرئيس الصيني شي جين بينغ المعروف باسم «الحزام والطريق»، يتطلب إشعال الحرائق السياسية في هذه المنطقة، فهذا المشروع الذي يمثل المستقبل القوي للصين، لا يمكن مروره بعيداً عن هذه الممرات الظلامية التي تجلس أفغانستان في القلب منها، وهذا أكبر تحد تراهن عليه واشنطن.

أما الموقف الأمريكي تجاه سيد الكرملين، فلا يختلف في خطوطه العريضة عن الفخ الأمريكي للصين، لكن التعامل مع رجل الـ«كى جي بي»، يحتاج إلى مفردات مغايرة، بايدن يحاول ضرب الأمن القومي الروسي في المنطقة الرخوة من حدود الإمبراطورية الروسية، أوراق واشنطن تعمل على تحويل القواعد العسكرية الروسية في طاجكستان، وأوزبكستان، لتصبح أهدافاً رئيسية للتنظيمات الإرهابية في الشمال الأفغاني، وهذا لن يكون على هوى بوتين، ولن تقبله روسيا الجديدة، فالذاكرة شاهدة على سقوط الإمبراطورية السوفيتية، بعد عشر سنوات من البقاء في أفغانستان، المقبرة الأفغانية نذير خطر، واشنطن تعلم ذلك جيداً، وتلعب من أجل استدراج الجميع إلى تلك المقبرة.

 

جو بايدن يبحث عن وريث شرعي للفوضى، الاستدارة شرقاً جزء من إدارة المعركة مع المنافسين، زرع حزام الفوضى على حدود بكين وموسكو، أهم أهداف استراتيجية واشنطن، توريث الفوضى هو المشروع الأمريكي في آسيا الوسطى.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو: هل تقع الصين وروسيا في هذا الفخ الغربي، أم أن دروس التاريخ، وحكمة الشرق، سيكون لها رأي آخر؟

Email