اقتصاد «كورونا» والصحة النفسية!

ت + ت - الحجم الطبيعي

أفصحت تداعيات كورونا مؤخراً عما هو أشد إيلاماً وقسوةً مما تسببت فيه الجائحة من كساد مالي وركود اقتصادي، وتشريد وتهجير الملايين من سكان العالم من وظائفهم التي كانوا يعملون فيها، فها هي أمراض واعتلالات الصحة النفسية التي ظهرت مؤخراً وتفشت في الأوساط الاجتماعية تفتك بالمجتمعات، أفرزتها - بالإضافة إلى الكساد الاقتصادي- حالة العزلة الإجبارية التي دخل فيها العالم بسبب الحجر المنزلي الصحي، وما فرضته قواعد السلامة الاحترازية من تفشي الوباء على سكان العالم.

لقد بذلت معظم حكومات العالم الأول الكثير من الجهود لاحتواء الأزمة الاقتصادية ومشاكل الركود والبطالة، فانتبهت إلى قضايا عدّة غايتها الحفاظ على سلامة مواطنيها، وإنقاذهم من هوّة الإفلاس والانهيار الاقتصادي الشامل، من خلال ما أسمته «حزم الإنقاذ المالية» التي تغيأت بها دعم المواطنين، ورفد الاقتصاد وتحريك عجلته التي كانت قد توقفت تماماً، وعلى الرغم من حرص تلك الحكومات على تقديم المساعدة القصوى لمواطنيها، إلا أنه قد غاب عنها تداعيات هي أشد وطأةً من السقوط الاقتصادي للمجتمع، وكان لا بد من أن تشمل حزم الإنقاذ المالية مهمة إضافية إلى جانب المهمة الرئيسية وهي تقديم الدعم المالي للمواطنين، فسقط من حساباتها الأعراض الجانبية للعزلة التي دخل فيها الناس جبراً، ومخلفاتها، وهي التي لا تظهر ملامحها إلا على المدى البعيد نسبياً، تلك المضاعفات التي تسببت فيها العزلة هي الأمراض والاعتلالات النفسية.

وليس فقط العزلة هي اللاعب الأوحد في مسألة الاعتلالات والأمراض النفسية، فالضغوط الاقتصادية والخسارات المالية والبطالة من أهم مسببات تلك الأمراض وتفشيها في أوساط المجتمع، ولها أشكال وصور عدة تظهر فيها، منها الاكتئاب ومنها الهلوسة ومنها الفصام وبالمقابل لا يستطيع الناس بسبب الوصمة الاجتماعية التي تلاحق المصاب بالمرض النفسي في المجتمع من التعامل معها بوعي، فإما أن يتكتم أهل المريض على مريضهم خوفاً من المجتمع، حتى تستفحل حالته، وتتفاقم أعراضها ثم ينال منه المرض كلياً، ثم لا يجدي معه علاج أو دواء، وإما المجازفة.

اليوم، وبدلاً من الممارسة العنصرية والتمييز الذي اشتهرت به بعض الحكومات في العصور السابقة ضد هذه الفئة من الناس، نجد وعياً حقيقاً لدى بعض الحكومات في العالم، والتي تدرك أن الإنتاج الجيد على الصعيد الاقتصادي يحتاج إلى صحة نفسية جيدة، إنها أشبه بقصة اكتئاب عمال المصانع في العصر الاقتصادي الصناعي، والتي انتهت بتدهور الإنتاج أولاً وانتحار بعض العمال أيضاً بعد أن تفاقمت حالة الاكتئاب لديهم، وبعد تدخل علماء النفس في الأمر اهتدوا إلى أن أسباب تلك الحالة، بالإضافة إلى ضجيج الآلات، لون جدران المصانع والآلات القاتم، وبعد تغيير تلك الألوان إلى ألوان مريحة للبصر، مهدئة لضربات القلب والأعصاب تلاشت الشكوى وتلاشت حالة الاكتئاب لدى العمال وعاود الإنتاج الازدهار.

وبالمثل فإن تدهور الاقتصاد في العالم نتيجة الوباء بالإضافة إلى العزلة الإجبارية التي فرضت على الناس قد تسببا في إفراز حالات كثيرة من الاعتلالات النفسية وقد انتبهت بعض الدول في العالم، يهمها كثيراً موضوع الصحة النفسية الجيدة لدى مواطنيها، كونها دولاً رائدة اقتصادياً.

بالإضافة إلى حرصها على تقديم العون والمساعدة للمجتمع خصوصاً في ظل الجائحة، وتعبيراً عن سلوكها الحضاري الذي انتهجته منذ نشأتها، بادرت، كدولة الإمارات العربية المتحدة، إلى تقديم العون والمساعدة الكاملة لمواطنيها ومقيميها على السواء فيما يتعلق بالصحة النفسية، بوعي يدرك أنها حالة طبيعية أنتجتها حالة الحجر الصحي والعزلة التي وضع فيها الناس أنفسهم قسراً، ثم وهو الأدهى أنها نتاج طبيعي لحالة البطالة والركود الاقتصادي والخسارات المالية التي أصابت كل مجتمعات العالم كافة، ولم يسلم من تداعياتها سوى القليل فقط.

ولعل القول في ختام هذا المقال بأن العلاقة بين الرخاء والازدهار الاقتصادي وبين الصحة النفسية هي علاقة تجانس وتماثل أو دال ومدلول، فإن رأينا حالة من الرفاه الاقتصادي سنرى إلى جانبها حالة من الرفاه في الصحة النفسية، وإن رأينا حالة من الركود الاقتصادي والكساد المالي سنرى إلى جانبها حالة من المرض والاعتلال النفسي، وحينها يلزم الحكومات التخفيف من وطأة تلك الحالة ومحاولة استيعابها قدر الإمكان. وللحديث بقية.

Email