قيم مضيئة من الهجرة النبوية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أطلَّ علينا عام هجري جديد، جعله الله تعالى عام خير وبركة وسعادة ورخاء، وبهذه المناسبة نستحضر ذكرى الهجرة النبوية، ذلك الحدث التاريخي العظيم، الذي أذن الله تعالى فيه لنبيه الكريم- صلى الله عليه وسلم- بالهجرة من مكة إلى المدينة، بعد أن بقي فيها ثلاثة عشر عاماً، صابراً محتسباً، يدعو الناس إلى الله، بحكمة وبصيرة، متحلياً بالخلق العظيم في معاملتهم، ومحبة الخير لهم، والحرص على هدايتهم وإرشادهم إلى قيم الخير، وما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.

لقد تجلى في هذا الحدث التاريخي عظمة أخلاق النبي- صلى الله عليه وسلم- وقمة أمانته وحسن معاملته للناس، والوفاء لهم مهما كان دينهم وتعاملهم، فقد أوكل- عليه الصلاة والسلام- إلى علي- رضي الله عنه- أن يرد الأمانات التي كانت عنده إلى أصحابها من أهل مكة، ولم يُنسه هذا الظرف العصيب قيم الوفاء والأمانة، التي ترعرع عليها، ولم يبرر لنفسه بأي وجه كان استباحة هذه الأمانات وخيانة أصحابها، كيف وقد وصفه الله بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم}، وقال عليه الصلاة والسلام مؤكداً ضرورة التحلي بالقيم: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»، وفي ذلك أبلغ درس للمتطرفين، الذين يستبيحون الدماء والأموال والأعراض، ويبررون ذلك لأنفسهم بحجج لم يسقها لهم إلا الشيطان، ونفوسهم المريضة.

ومن القيم المضيئة، التي تجلت في هذه الحادثة حب الوطن، فهي غريزة جُبل عليها الإنسان، ولا يقع في درك خيانة الأوطان إلا من انحرفت فطرته، واختل تفكيره، واختُطف من قبل التيارات والأيديولوجيات، التي تضرب قيم المواطنة عرض الحائط، فها هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول مخاطباً مكة المكرمة: «ما أطيبكِ من بلدٍ وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك»، وقد طيَّب الله خاطره، ووعده بأن يعيده إليها، فقال: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معاد} أي إلى مكة، فنزلت هذه الآية تسكيناً لحزنه على فراق وطنه، ولذلك قال بعض العلماء: مما يُمدح به الإنسان حنينه إلى الأوطان.

ومن القيم المضيئة في الهجرة النبوية اليقين بالله تعالى، والتوكل عليه، والاعتصام به، وقوة الأمل والتفاؤل والثبات ورباطة الجأش، وأنَّ بعد العسر اليسر، وبعد الكرب الفرج، وهو ما تجلى في حادثة الهجرة، بما حملته من أخطار وتحديات، وما تميز به النبي- صلى الله عليه وسلم- من اليقين والتوكل، فقد كان عليه الصلاة والسلام نموذجاً في التفاؤل والأمل والثبات طيلة هذه الرحلة، وخصوصاً في أحلك الظروف وأصعب المواقف، فها هو أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- يقول: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا، فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، ومَنْ أحسن الظن بالله تعالى وجد أثر ذلك راحة في القلب وانجلاء للهم والغم وانفراجاً للكرب.

ومن القيم المهمة كذلك حسن الإعداد والتخطيط، وبذل الأسباب المتاحة لتحقيق الصدارة والريادة ومواجهة التحديات، ولذلك حرص الرسول- صلى الله عليه وسلم- على التخطيط للهجرة واستئجار الدليل الماهر واصطحاب الرفقة الطيبة.

ومن القيم المضيئة في الهجرة النبوية دور المرأة في بناء المجتمع، وأهمية مشاركتها في البناء والنهضة ومواجهة التحديات والتغلب عليها، فلا ينهض المجتمع إلا بشراكة متينة بين جميع فئاته ذكوراً وإناثاً، وكذلك دور الشباب، وهو ما تجلى في صنيع أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنهما- في حادثة الهجرة، حيث كانت توصل الطعام إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر الصديق- رضي الله عنه- وكذلك في دور علي بن أبي طالب ودور عبدالله بن أبي بكر اللذين كانا نموذجين للشباب، الذين يعتمد عليهم في وقت الشدائد.

لقد تكللت مسيرة الهجرة النبوية بالنجاح، ووصل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة آمناً مطمئناً، لينشر فيها عبق السلام والاستقرار والرخاء والازدهار، ويجمع فئاتها المختلفة على التعايش والتعاون والأخلاق الكريمة، فكان بحق رحمة ونوراً وهدى للعالمين، كما قال تعالى في وصف خصاله الشريفة: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.

Email