بينما الكوكب غارق حتى أذنيه في الوباء وقواعد التعامل معه، الآخذة في التغير، وتحوراته المستمرة في التطور، وشؤون اللقاح، وأمور القوائم الحمراء والخضراء، تجري الأمور في أفغانستان، بما لا تشتهي أمنيات إغلاق أحد أكبر أبواب الإرهاب الملتحف بالدين. بينما تُكتب هذه السطور وتُقرأ، تمضي طالبان قدماً في استعادة قبضتها على هذا البلد العاجز عن التقاط أنفاسه.
أنفاس العالم محبوسة بفعل وباء فتاك، يأبى أن يهدأ أو يفتر، ولذلك، فإن اهتماماته وأولوياته منغمسة في متابعة عداد الإصابات، والجديد في اللقاحات، وجديد التحورات، وتوقعات الأيام والسنوات المقبلة. ويبدو أن هذا أثر سلباً في مقدار الاهتمام العالمي بالعودة بالغة القوة المثيرة للدهشة والريبة لطالبان في أفغانستان، بعد سنوات لا تقل عن عقدين من الكمون، على الأقل ظاهرياً.
مرت سنوات طويلة منذ تحولت أفغانستان إلى ملعب لقوى العالم العظمى والصغرى، وما بينهما. ومرت أيضاً سنوات طويلة منذ استيقظ العالم على كيان مرعب تحت مسمى «إمارة أفغانستان الإسلامية». ويكمن الرعب في أن الإرهاب والتطرف والعنف، ونشر الأفكار المسمومة والأفكار المغلوطة المرتبطة بدولة طالبان، وغيرها من الكيانات والتنظيمات والجماعات الشبيهة، عابرة للحدود.
ولأن الفكر المسموم – وإن كان أداة في أيدي طامعين إلى السلطة أو طامحين إلى السطوة- لا يعالج بالغزو أو الاحتلال، ولا يتطهر بالدفع بحكومة بدلاً من أخرى، أو رئيس «دولة» بديلاً عن زعيم إرهابي، فإن ما يجري الآن، هو عودة مؤكدة، واستعادة مدبّرة لدور أفغانستان في أن تكون شوكة في حلق المنطقة، ومركزاً لإدارة عمليات رسم خارطة الشرق الجديد، التي تم إجهاضها غير مرة في العقد الماضي، وتحديداً منذ هبوب زعابيب ما يسمى بـ «الربيع العربي» على المنطقة.
فمن يتصور أن حركة «طالبان»، التي أنبتت نبتتها المسمومة على مدار سنوات طويلة، قد اختفت عناصرها أو خف أثرها باتفاق «جنتلمان» بين روسيا وأمريكا، أو بانسحاب قوات حلف شمال الأطلسي «ناتو» تدريجياً، أو بغزو أمريكي، أو بسحب فجائي للقوات الأمريكية، أو بدور تركي بعد الانسحاب الأمريكي، ووجود قوات تركية، أو بتطاحن بين الهند وباكستان عبر أراضيها، أو بدور صيني ناشط، لكن يكتنفه الغموض والحذر، أو باهتمام ونشاط إيراني محموم في البلاد، أو بعلاقات قطرية – طالبانية وثيقة، فهو مخطئ.
الحركة التي نشأت في أوائل سبعينيات القرن الماضي، عقب انسحاب قوات الاتحاد السوفييتي السابق من أفغانستان، بقيت حية ترزق، طيلة السنوات الماضية، والتي تم الترويج فيها لعودة أفغانستان الدولة، وتدشين نظام سياسي حديث، عقب «إسقاط» حكومتها وحكمها في عام 2001، لم يكن لها أن تتبخر في الهواء.
الحركة التي كانت تؤوي أسامة بن لادن وغيره من كبار شخصيات تنظيم «القاعدة»، ظلت حية ترزق. وها هي تتمدد وتتوسع وتتوغل في طول البلاد وعرضها. مليارات الدولارات التي أنفقت على تدريب القوات الأفغانية، ودحر طالبان، لم تسفر نصراً لهؤلاء، أو تلحق هزيمة بأولئك. وهل يعقل أن تتمكن حركة مهزومة من لم شتاتها في خلال أيام معدودة، عقب إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن، انسحاب القوات الأمريكية، وتنجح في السيطرة على مدن بكاملها فجأة؟!
في عام 2017، أكد مسح أجرته «بي بي سي»، أن طالبان تسيطر بشكل كامل وعلني، على عدد من المناطق، وأن مسلحيها دأبوا على شنّ هجمات أسبوعية أو شهرية على القوات الحكومية في بعض المناطق. ويبدو أن ذلك ساعد الحركة على الحفاظ على لياقتها، أثناء فترة ابتعادها الظاهري عن الملاعب، حتى إذا حان وقت العودة، ظهرت بكامل لياقتها على أرض الملعب. فإذا كانت هذه نتائج بحث مؤسسة إعلامية، فما بالك بنتائج بحث كيانات استخباراتية؟!
الملعب الأفغاني بهيئته الحالية، يؤكد صدق وواقعية مقولة الإمام الشافعي «ما حك جلدك مثل ظفرك، فتولَ أنت جميع أمرك». الرئيس بايدن، قال قبل أيام عن الوجود الأمريكي في أفغانستان: «لا تقل لي إننا هناك لإصلاح المجتمع كله، وإلى ما هنالك. لن نستخدم شبابنا من أجل ذلك».
احتمالات أن تكون أسباب الوجود متعدد الجنسيات- سواء بالجسد أو المال أو التكتيك أو التحريك- أو حتى الانسحاب أو تجاهل ما يجري على أرض الملعب الأفغاني، متعلقة بالصالح العام للمواطن الأفغاني، أو بناء الدولة الأفغانية، أقرب ما تكون إلى الصفر.
عناوين الأخبار الواردة من أفغانستان حالياً، هي: «روسيا ترسل قاذفات إلى حدود أفغانستان»، «رئيس أفغانستان: انسحاب أمريكا المفاجئ سبب تدهور الأوضاع الأمنية»، «طالبان تتبنى هجوماً على وزارة الدفاع في كابول»، «مسؤولو طالبان يناورون في الدوحة، ويشعلون النار في أفغانستان»، «أنباء عن مقترح لنقل القيادات الإخوانية إلى أفغانستان».
فهل تتطلب مجريات الملعب الأفغاني من دول المنطقة، حذراً وعملاً واستباقاً للمتوقع؟!